حين كنت طالباً في السنة الثانية من بجامعة صنعاء عاد الدكتور محمد عبدالملك المتوكل أستاذ الإعلام والاتصال السياسي بقسم العلوم السياسية من رحلة علاجية طويلة إلى أمريكا. منذ كنت في المرحلة الإعدادية والثانوية لاحظت ما يمثله الرجل من حضور سياسي وفكري وطني واسع, فكانت فرصة في التعرف عليه من خلال نشاطي الطلابي في الاتحاد العام لطلاب اليمن.
زرته في مكتبه المتواضع بالكلية وقدمت له نفسي طالباً منه إجراء حوار صحفي لنشرة طلابية !!. كان الرجل متواضعاً وودوداً ومشجعاً تعرف إلي وسألني عن تخصصي الدراسي وإسمي ومنطقتي ورحب بإجراء الحوار وقال لي حين تكون أسألتك جاهزة ضعها في مكتبي إن كان مفتوحاً لدى المعيد, أو أدخلها من تحت الباب واعطاني رقم هاتفه المنزلي.
لم يتأخر كثيراً في الإجابة على حواري معه فقد تكرم بكتابة الأجوبة بخط أنيق وطلب مني أن أعطيه رقم فاكس كي يرسلها لي عليه, وأعطيته رقم فاكس أحد أصدقائي لتصل الإجابة في نفس الليلة.
كانت إجاباته رصينة فيها السياسة وفيها نصح الطلبة على العلم, وفيها أيضا معلومات عن سيرته العلمية والعملية, وكشف في الحوار أنه خلال رحلته العلاجية أجرى عملية زراعة كبد تم استبدال ثمانين بالمائة من كبد نجله المحاسب القانوني والخبير المالي ريدان محمد عبدالملك المتوكل.
كان حواري المتواضع معه هو أول حوار صحفي يجريه بعد عودته من أمريكا رغم أنه كان على الدوام محط انظار الصحافة المحلية والدولية. بعد ذلك الحوار ظلت علاقتي به تنمو باستمرار, زرته مرة يتيمة إلى منزله بشارع الزراعة , وبعد ذلك عرفته أستاذا في قاعات الدراسة. عرفت كثير من أساتذة الجامعات لكنه ونفر قليل من الأكاديميين بينهم الدكتور محمد الظاهري يشعر معهم الطالب بالود وتجاوز الكلفة.
أبرز ما كان يميز المتوكل الأستاذ أنه هو السياسي الذي نقرأ له وعنه خارج قاعات الدراسة كان الإيمان بحق الاختلاف في الرأي راسخا لديه حتى مع طلابه, كنا لا نجد غضاضة في نقد ما يطرحه من رؤى وأفكار !!
بل كان يحرص على أن يعلم طلبته حرية النقد وطريقة الاختلاف, ويشجعهم بأسلوب أب حريص, يجعل الكل يشعر أنه قريب منهم. بعد تخرجي من الجامعة التقيته في محافل عديدة وكان كعادته يرحب بطلابه ويهتم بهم ويناقشهم كما لو أنه من جيلهم. أذكر ذات مرة في قاعة الدراسة أن طالباً من الزملاء سأله سؤالا يبدو أنه يتعلق به شخصياً فما كان منه إلا ان أحال الإجابة يومها على ابنته الرائعة رضية التي كانت في نهاية حجرة المحاضرة تدرس معنا بعض المقررات في مساق دراستها العليا.
ذات يوم ناداني في أحد ممرات الكلية بصوته المبحوح – رحمه الله – يا يحيى هيا نسير نقبر صاحب البلاد , وعلمت أنه يعني القاضي أحمد الآنسي والد الأستاذ عبدالوهاب الانسي أمين عام الإصلاح.
في آخر لقاء جمعني به, التقيته في مقر أحزاب المشترك حين زرت المقر تزامنا مع اجتماع المجلس الأعلى للمشترك انا وبعض الاخوات لطرح قضية معتقلي الثورة على هذه القيادات. رحب بي الدكتور المتوكل كعادته ترحيبا حاراً وكان بعد عودته من رحلته العلاجية في عمان إثر إصابته بحادثة الدراجة النارية المعروفة, بدأت حديثي معه بسؤال هل عرفتني يا دكتور ؟. ليجيب: أنت تسألني هذا السؤال كل مرة يا يحيى !! قصدك لأنك جالس بعمران الناس “حينسوك” !!
حدثته عن كتابات ناقدة وجهتها له وقلت له أخشى أن يكون أنزعج منها فأبدى استغرابه من سؤالي قائلا: أنا حرصت على تعليمكم حق الاختلاف حتى في المقررات الدراسية فكيف أنزعج منها ؟ وأضاف أنه لا بد ان نمارس حريتنا كشباب في طرح رؤانا وأفكارنا وننقد أحزابنا بكل وضوح مضيفا : الملعب ملعبكم ياشباب.
نحن لم يعد لدينا ما نعطيه, لا تركنوش أن لدى محمد عبدالملك وياسين والانسي ما يصنع مستقبلكم, وكان الرجلان بالقرب منه !!. لم يكن مذهبيا ولا فئويا ولا مناطقياً , قال في مقابلة له قبل فترة حين سأله المحاور هل بالإمكان أن يترشح للرئاسة ما معناه : نحن الهاشميون من المبكر حديثنا عن هذا الأمر فالناس بحاجة ليطمئنوا بعد عهد الإمامة الذي لم يمر عليه حتى خمسين عاماً.
رغم ان الرجل كان إبناً لمندوب الإمام أحمد حميد الدين وعامله على حجة بعد سقوط ثورة 1948م إلا أنه كان من الذين انحازوا في شبابهم إلى خيار الثورة وكان له رؤى مستنيرة منها مهاجمته لظاهرة تقبيل الركبتين لبعض الفئات من الناس وله مقالة مشهورة نشرت قبل سبتمبر بعنوان “إرفع رأسك يا أخي” !!. كان من مؤسسي المشترك وصناعه الأوائل وكان من الشخصيات التي لا يمكن لها التقيد بالتأطيرات الحزبية حيث يبدو أن علاقته بإتحاد القوى الشعبية كانت علاقة استفادة من اسمه وتاريخه وحضوره الواسع, أكثر ن كونها علاقة حزبية وظيفية روتينية كالمعتاد. رحمك الله أستاذنا القدير ومعلمنا النبيل.
تأتي ظروف إغتيالك في بلد هو أحوج ما يكون إلى صوت العقل والسلام والحوار. قتلوك وأنت تمشي في شوارع صنعاء أعزلاً من السلاح فيما جماعات القتل وأمراء الحرب يتبخترون بسلاحهم الذي يحمل الموت الناقع. لن أنعيك وحدك .. فأنت كنت ستموت ولاشك.
عمرك وصحتك لم تكونا تجعل من موتك حدثا مهولاً لو حدث بشكل طبيعي, لكنها الاشجار تموت واقفة. لم يربح قاتليك إلا اللعنات ولم يسلبوا منك مجدا بل منحوك الخلود.
رحمة الله تغشاك أيها القدير. عزائي لوطني الذي ينشد السلام فيما هناك من يطبخ له الموت ويعد له المصائب كل يوم.
عزائي لأبنائك وبناتك الكرام الذين أحسنت تربيتهم وجعلت منهم رجالا ونساء يفخر المرء بأنهم يحملون إسمه, عزائي لريدان ورضية وقبول وإلهام وإنطلاق وزوجتك الكريمة وكل أفراد أسرتكم الكرام. وعزائي لنفسي أولاً وأخيراً.