عادت ألفت خيمتنا الخضراء في وسط ساحة الاعتصام المفتوح وعادت ليالينا الثورية بعد انضمام ثائر جديد إلى خيمتنا الصغيرة عاد الصخب والضحك والمرح بعد ان أفتقدناه منذ أيام حين غادرنا (محمود الشعبي) وقد كان يملي خيمتنا سعادة وسرور حتى في أحلك الظروف، غادرنا عائداً الى قريته التي تقع في شرق البلاد كي يكون بجانب زوجته في مخاضها القريب وبعد أيام قلائل وصلتنا بشارة منه أن الله رزقه بطفلة حلوه سماها (نور) لتكون السابعة من أخوانها .. وكانت فرحة (محمود) بالطفلة لا توصف كما قال في رسالته الاخيرة ..
عادت الليالي الثورية والحماس الى خيمتنا بوجود الثائر (ناصر مسرور) ببسمته التي لا تفارق محياه وبحسن معاشرته ودماثة أخلاقه، بالإضافة الى ثقافته العالية وذوقه الرفيع فمنذ وصوله ونحن نستمتع بسماع الأخبار ونتابع تعليقاته عليها بعد ان يقرأ لنا ما يلفت نظره من أخبار الأنترنت والجرائد التي يجلبها عند عودته من السوق.
كان (ناصر) في قمة سعادته وهو يسرد علينا الحكايات الظريفة والنكات، كان حديثه ممتع جداً حتى حين يتحدث في موضوعات الساحة ومشاكلها نلحظ حماسته وجديته وإصراره العجيب على تجاوز ما يسميها بالصغائر، وفي الفترة الأخيرة كنا نشعر بالتغيرات التي ظهرت عليه لا ندري ماذا أصابه؟!.. فقد طرى عليه تغير طفيف حيث كنا نشاهده أحيانا ينزوي فوق فراشه الممدود في طرف الخيمة لا يكلم أحداً، وما ان يشرع في القراءة بصمت حتى يتوه في تفكير عميق وكأنه لا يشعر بوجود من حوله.
يوماً بعد يوم ونحن في ساحة الاعتصام وخيمتنا الصغيرة الخضراء التي تتوسط الساحة تفقد حيويتها بغياب ضحكاتنا وقهقهاتنا العالية من جديد .. فلم نعد نرى (ناصر) في الخيمة إلاّ في اوقات متباعدة، حيناً وهو عائد من الخيم المجاورة مشغول البال أو يتهامس وصديقيه الذان يأتيا معه الى الخيمة وأحياناَ نراه وهو يتسلل الى فراشه الممدود في طرف الخيمة دون ان يحدث صوتاً، ليضع جسده المنهك ويغط في نوم عميق .. يُخيل إلينا أن (ناصر) يحمل سراَ في قلبه أو يحمل هموم الدنيا كلها.
تمر ليالي الأعتصام المفتوح دون ما يحدث أي تغير في الجو العام ودون ان تلوح آفاق النصر الموعود لثورتنا في 30 نوفمبر، وكلما قرب التاريخ المنتظر ازددنا قلقاً وازدادت حيرتنا، ومع كل ذلك لم تفتر همتنا ولم تهتز عزائمنا وكنا ولازلنا نؤمن أن النصر قادم لامحالة .. في هذه الظروف الاستثنائية لم نعد نشاهد (ناصر مسرور) إلا نادراَ وحين نشاهده نرى من حوله مجموعة كبيرة من زملائه الثوار وغالباً ما يتوسطهم، ولا ندري ما كان يحكي لهم؟! إلا انهم لا يتقهقهون كما نفعل عند سماع حكاياته.
في يوم (30 نوفمبر) نفذنا تظاهرة ضخمة ثم عدنا نحمل شهيداً سقط برصاصات الغدر الملعون، عدنا ليلتها يغشانا الحزن وخيمتنا تتأوه وكل خيمنا المنصوبه في الساحة تتألم والغضب المسكون فينا يتصاعد من بين حناجرنا (ثورة ثورة ياجنوب). ثوار الجنوب الاحرار جاؤوا من كل حدباَ وصوب وصاحبنا ناصر غارق في موج المد البشري، غارق في حزنه، غارق في تفكيره.
جاء (اليوم الموعود) ولم يأتي الاستقلال ولم يأتي النصر المأمول ولم يحدث شئ جديد غير مليونية أخرى نفذناها كعادتنا كل عام.. حتى خيمة جيراننا هدأت بصخبها وجارنا في الخيمة الشرقية والذي يتحدث باستمرار لم نعد نسمع صوته ونكاته الماجنة التي جبل على سردها في كل الأوقات.
مرت اياماً وليال كسلى خاملة تتثأب فيها الشمس والظلمة بتعاقب أزلي ورتيب، فيما غضب الأرض يكسو وجوه المعتصمين وهي تحمل إصرار الثائر وثباته في وجه المحتل، لمحتُ شحوبه في وجه (ناصر) حين أتانا لآخر مرة في ظهيرة ذلك اليوم كان يتوسط ثلة من زملاءه -كعادتهم حوله- دخلوا خيمتنا محدثين جلبة وكان يوزع عليهم مهمات (اليوم الغاضب) وسرعان ماذهبوا تلفحهم شمس العصرية وتكسوهم صبغة ذهبية ليعلنوا من منصة ساحة الاعتصام بخطتهم للتصعيد الثوري السلمي.
مرت ساعات الليلة بتثاقل ليلة لا تعرف معنا النوم حتى جاء الصبح بلون آخر لا يشبه كل الأيام، شمسه تتوارى خلف غباراً مزعج أو غيمة علقت بتلابيب سكون الموج ولم تتلاشى، صار اليوم هو اليوم وأخبار الخيمة تملئ الآفاق وكل خيام الساحة تقرأ أخبار التصعيد وخيمتنا لازالت تترقب (ناصر) كي يقرأ الأخبار.. ولم يأتي (ناصر)، لم ياتي من يومتها لكن خيمتنا حملت أسمه وصار الكل يهتف أمام الخيمة الخضراء ..عاهدنا كل الشهداء .. عاهدنا القائد ناصر ..