الرئيسية - منوعات - "دير الدومنكانيين": مرحبا بطلاب الإسلام في حضرة "الرهبان"

"دير الدومنكانيين": مرحبا بطلاب الإسلام في حضرة "الرهبان"

الساعة 03:12 مساءً

مكان هادئ وسط شارع يعج بالمارة، سور يحجب خلفه عشرات الأشجار يطل من خلفهم مبنى على طراز معماري قديم، بوابة حديدية كبيرة موارب جانبها الأيمن، يدلف من خلالها زائر أو اثنين، التحيات في هذا المكان همسا، والدخول يصاحبه صمت وهيبة، فأنت هنا في حضرة الرهبان لدراسة دين الإسلام.

بشارع "الطرابيشي" بحي العباسية، وبداخل أسوار "دير الآباء الدومنكيين"، تقبع مكتبة تحوي نفائس تراث التحقيقات الإسلامية القديمة، وهبها أصحابها لجيرانهم من طلاب الأزهر الشريف، وثمة رهبان من ذوي البشرة الشقراء القادمون من فرنسا، سخروا أنفسهم من أجل هذا الغرض، منتهجين لشعار سلك الرهبنة الدومنكانية "البحث عن الحقيقة".



وسط هدوء المكان تجد حديقة ذات كراسي خشبية مكسوة بـ"كليم"، جلس عليها مجموعة من الطلاب الأجانب المستشرقين رغبوا في دراسة الإسلام، وجلس إليهم رجل في ملابس "مودرن"، لا تتخيل للوهلة الأولى أن المتحدث الجيد للفرنسية الذي يصب لهم أقداح القهوة ما هو إلا "الراهب جون جبرائيل" أحد العاملين على خدمة المكان، وأحد المساعدين لهؤلاء الطلاب في فهم الإسلام عن قرب، قائلا: "أنا نفسي درست الإسلام بعلوم القرآن والفقه والشريعة، لكني تخصصت في (اللاهوت السياسي) وخدت فيه الماجيستير".

نظام أسسه راهب أسباني، ليتبعه ويطوره رهبان فرنسيين، ويضع قواعد فلسفته راهب الماني، ويأتي لمصر ليفتح "معهد الدراسات الشرقية"، مقدما خدماته بالدرجة الأولى لمساعدة طلبة الأزهر الشريف وكليات العلوم الشرعية، قائم عليه "الأخ رينيه" الراهب الفرنسي، يعاونه كل من الأخوة "جون دروال" و"ريميه شينو" و"أدريان كانديار".

"الفكرة كانت كيف تفكر في المسيحية من منظور إسلامي، وكيف تتعامل مع مجتمع مسلم وتعرفه جيدا دون التصادم معه" هذا ما لخصه الراهب "جون جبرائيل" المتخصص في اللاهوت السياسي، قائلا: "دراستي للاهوت السياسي هي المقابل لدراسة الإسلام السياسي، وفيها تعرضت لكثير من المفاهيم المقارنة، ومن خلال تجربتي الشخصية فهنا في مجتمع ممتزج بين الإسلام والمسيحية، قد يعرض طرف فكرته من خلال إطار يصدم الإطار الآخر، وهنا دورنا لتبسيط هذه المفاهيم بعيدا عن الحساسية والصدام".

فكرة المعهد كادت أن تعصف بها منذ البداية، فالمعهد المؤسس منذ ما يزيد عن 80 عاما (1933)، لم يكن في شكله الحالي منذ تأسيسه على يد مجموعة من الرهبان الفرنسيين يعاونهم الراهب المصري المنتسب للدومنيكية الأب الدكتور "جورج شحاته قنواتي"، والأزمة كانت حين رغبوا في بناء هذا الدير المصري الفرنسي، وقت كان "العدوان الثلاثي" أزمة كبيرة في مصر، إلا أن تخصيص الأرض واختيار مجاورة "الأزهر" سهل من هذه المهمة، وهو ما جعل القائمين عليه يتخصصون في الدراسات الشرقية وتحديدا القرون الخمسة الأولى في صدر الإسلام.

من ضمن نفائس المكان كتاب مخطوط على أوراق البردي، يعود زمن كتابته إلى أيام دخول العرب والإسلام لمصر، وتحديدا وقت ولاية "عمرو بن العاص"، فضلا عن مخطوطات وكتب أخرى تشرح علوم القرآن والفقه والأحاديث، فضلا عن مكتبة كبيرة تجمع بين كتب التراث والكتب الحديثة المتخصصة في دراسة تلك الحقبة في تاريخ الإسلام وحضارة الشرق في هذه الفترة.

"90 في المئة من الطلاب هنا أزهريين ومسلمين" قالها "الأخ جبرائيل" وهو يستعد للرحيل مع طلابه الفرنسيين، قائلا: "الأساتذة والدكاترة هما اللي بيعرفوا طلابهم على مكتبة المعهد والدير هنا، وبتساعد طلاب الدراسات بشكل كبير لأنها أكبر مكتبة متخصصة"، أما طلابه ذوي الخطوات الأولى في تعلم العربية، قالوا في فرنسية بسيطة ما معناه "الأخوة هنا بالدير يتولون مهمة قراءة وشرح الكتب لهم"، وذلك أثناء فترة تعلمهم للعربية.

على نفس الطاولة الخشبية المكسوة بالكليم الصعيدي، شخصان بدت عليهما الملامح الأوروبية، أحدهما يلملم شعرات رأسه للوراء، وتستطيع سماع لكنة "لبنانية" من بين حديثه الفرنسي، والآخر أمسك بـ"سيجار" فخم، وجلس يداعب قطة بكلمات فرنسية ضاحكة، بالحديث معه تبين أنه الفرنسي "الأخ جون باتيس" الراهب الدومنيكي بالقدس، جاء للقاهرة في رحلة تستمر اسبوعا للتنسيق مع زملائه بالمعهد في امور دراسية، قائلا بلغة عربية متكسرة "هنا في دير اخو مسلمين"، ليشرحها بالفرنسية فتتبين أنها "مهمتهم في هذا الدير مؤاخاة المسيحية والإسلام من خلال الدراسة والتقارب بالمعرفة".

تستعد للرحيل وتتجه نحو البوابة، على مقربة خطوات منها غرفة صغيرة مبنية لـ"عاطف عمر" حارس الدير، المسلم القادم من الصعيد للعمل هنا، والذي اكتسب معرفة بالفرنسية من خلال تعامله مع هؤلاء الأخوة والآباء، قال: "من فترة كان هنا البابا تواضروس وقعد فترة كبيرة، ومن حوالي سنة كان السفير الفرنسي وناس من السفارة بتيجي المكان وتزود المكتبة، بس أكتر حد بيجي هنا هو (محمود عزب) نائب شيخ الأزهر، وشيخ الأزهر اللي فات (يقصد الشيخ طنطاوي) جه هنا وفتح الدير أول ما اتعمل من كام سنة قريبة"، إلا أن "عاطف" شكى سوء المشاهد أمام بوابة الدير، فقال: "هنا الناس محترمة وفي حالها، والباب مفتوح للطلاب، بس شباب الجامعة والمناظر هنا مش ولا بد ومفيش مراعاة لحرمة المكان، حتى الكشك اللي كان فيه العساكر كانوا بيهملوا ويحيبوا صحابهم ويعملوا دوشة، والإدارة هنا اشتكتهم ومشيوا".