تقرير: عبداللطيف سالمين
عاليا في سلسلة جبال شمسان أعلى قمم جبالية في مدينة عدن، والذي يمتد منها الى الجنوب والغرب والشمال اطراف تنتهي بعضها في البحر حاوية العديد من المعالم التاريخية، كصهاريج عدن، و بئر الهرامسة وبرج الصمت الرفيق الشامخ للصرح التاريخي"كهوف البومس"، الكهوف التي تعتبر أحد ابرز معالم ثغر هذه البلاد، كان حتى العقد الاخير قبلة الكثير من السياح الأجانب الذين يثيرهم الفضول لفك خبايا إحدى الألغاز التاريخية التي يعود بناؤها إلى الألفية الأولى قبل الميلاد.
تاريخ كهوف البومس ومميزاتها الهندسية
كهوف البومس، سلسلة من المغارات الملتوية والعميقة، نحتت في اعماق الجبال المحيطة بمدينة كريتر، لازالت اثارها باقية حتى اللحظة، تم تشييدها وتصميمها بطريقة هندسية تبرز مدى الذكاء الإنساني منذ القدم نظرا لتاريخ تشييدها، حيث يرجح المؤرخون أن بناء هذه الكهوف وحفرها قريب من فترة انشاء الصهاريج ويعتقد اخرون ان الغرض الأساسي لبنائها تزامن مع إنشاء الصهاريج، إلا ان ليس هناك الكثير من المعلومات التاريخية الموثقة والمؤكدة بهذا الشأن. ولكن تذهب بعض الأساطير الى ان تلك المغارات قد سكنت ذات زمن من قبل قبائل "الجبرتيين" الذين طغت شهرتهم في الحكايات الاسطورية كأكلي لحوم البشر.
جذور هذه الأساطير امتدت من اقاويل سكان المدينة المتناقلة على مدى قرون والتي حكيت بشفاه القدماء عن أسطورة البومس الشهيرة، تلك القبائل البدائية التي استطونت آنذاك مدينة عدن واتخذوا من مغارات
منعزلة ملجأ لهم، بعيدا عن أماكن سكن بقية قاطني المدينة الذين ملأهم الرعب والخوف منهم.
- أساطير مختلفة وحقيقة لم يكشفها أحد
نسجت على اطلال ما تبقى من كهوف البومس العديد من الاساطير والحكايات، بعضها بقيت حبيسة حكاوي الجدات، وعلى مدى قرون حفلات الدم تلك وما اشيع عنها ظلت تستهوي العديد من الباحثين والمهتمين بعلم الانتروبلوجيا، لفك خبايا هذا اللغز، الا ان اهم الدراسات والجهود التي كللت لفك اسبار الاسطورة المرعبة التي ارتبطت حول سكان كهوف البومس، كانت من نصيب الاختصاصي في علم الانثروبلوجيا والباحث الفرنسي"رينوه تاديه" الذي قام بما سبقه العديد من الباحثين الذين حاولو من خلال بعض الدراسات الخجولة اثناء قدومهم الى المنطقة لاستكشاف اطلال الكهوف الصخرية، محاولة لايجاد خيط ما، او استقراء ما يمكن البحث عنه لاكتشاف اي دليل يدعم الاساطير المنسوجة حول المكان، وجميعهم اتفقوا ان فرضية وجود قبائل الجبتيين وما اشيع عن ممارساتهم، تكاد تكون مستحيلة، وان تم اثبات ذلك فسيكون الأمر بمثابة سبق علمي هام، كون لا وجود اي دراسات علمية تؤكد وجود مثل هذا النوع من القبائل البشرية في قارة اسيا.
شواهد تاريخية على صناعة التعدين
وقال بعض الباحثين أن الكهوف قد استخدمت للتعدين، واستخراج مادة تسمى شعبياً “البوميس”، وعمر المناجم يتزامن مع عمر صهاريج عدن الذي يعود لعصور ما قبل الميلاد، كون أن الهدف من إنشاء هذا المنجم هو استخدام المواد المستخرجة في بناء الصهاريج كمادة رابطة بين وحدات البناء لجدران الخزانات (الأحجار والطوب)، وكذلك كمادة تجصيص (تلبيس) على جدران وأرضية الصهاريج، وسدّ الشقوق الموجودة في الجدران الصخرية ، بينما أشار آخرون أنها قد تكون اُستخدمت كمنازل للإنسان القديم .
الرأي الذي يوافقه العديد من الباحثين المحليين حيث يعتبروا ان مناجم كهوف البومس تعد شاهداً تاريخياً على صناعة التعدين في عدن، كونها تموضعت في نطاق متميز يمثل فترة جيولوجية محددة ضمن التطور البنائي لبركان عدن، عبارة عن زبد بركاني ذي تركيب حمضي مكون من سيليكات الألمونيوم والصوديوم والبوتاسيوم، ويمثل بذلك خلطة طبيعية تكتسب خاصية إسمنتية عالية عندما تضاف إليها مادة الجير بنسبة تصحيحية، وتدل تلك الكهوف على نظام تعديني، استخراجي بنمط متقن متمثل بنظام الغرفة والعمود .
وهو ما يؤكده الاستشاري الجيولوجي م / معروف عقبة، الذي كشف
ان تلك المادة استخدمت بهيئات خلطات مختلفة في العديد من المواقع الأثرية ، أهمها حقل صهاريج الطويلة التاريخية، وكان استخدمها المتعدد يتمثل في عدة اشكال واستخدمت كمادة تجصيص ناعمة صماء على جدران وأرضية الصهاريج لتعبئة الشقوق ما بين الجدران الصخرية المحيطة بالصهاريج ،وكمادة رابطة بين وحدات البناء المكونة لجدران المنشآت .
وما زالت تلك المادة الرابطة "التاريخية" تتواجد كعينات جيدة محتفظة بدرجة عالية من التماسك في مواقع مختلفة في حقل صهاريج الطويلة ، وتنتسب إلى ذات الحقبة التي تم فيها اقامة تلك المنشآت .
ومن الأهمية بمكان الاستدلال على أن ذلك النشاط الاستخراج قد تزامن بتاريخ فترة إنشاء صهاريج عدن والتي يعود تاريخها إلى زمن الدولة السبئية .
ويؤكد بعض علماء الآثار الغربيين أنه يجب أن تقام دراسات مكثفة على هذه الكهوف وأن الدراسات التي ستقوم في كهوف البوميس أو مايعرف بكهوف عدن قد تكشف الكثير من تاريخ جنوب الجزيرة العربية لعصور ما قبل التاريخ بإعتبار جنوب شبة الجزيرة العربية إحدى أقدم مواطن الإنسان القديم.
اهمال متعمد وتخريب مستمر
رغم كل عوامل التعرية منذ آلاف السنين والإهمال لاتزال هذه الكهوف صامدة متحدية كل الإجحاف الذي تعاني منه، لا مبالية بكمية التسيب والتخريب وجهل الناس بقيمتها الحقيقية، و لااستغراب من عدم معرفة العديد من ابناء الجيل الحالي عن كهوف البومس أي شيء، وذلك نظرا للاهمال المتعمد الذي طالها منذ حرب94 وحتى هذه اللحظة. اضافة الى سياسة التجهيل المعتمدة لأبناء المدينة، وافتقاد المناهج التعليمية لذكر هذه الأماكن او تشييد رحلات دراسية لزيارتها والتعريف بقيمتها وتاريخها، ولا يقف الامر عند جهل قيمة الموروث التاريخي لأبناء المدينة، ليشاركوا هم انفسهم بعملية العبث والتخريب التي طالت المكان، حيث قام العشرات من السكان على مدى العقدين الاخيرين ببناء منازلهم الغير قانونية على مقربة من المكان، وذهب البعض بلامبالاة إلى تصريف مياه الصرف الصحي وقمامتهم على مقربة من الكهوف، وملئوا المغارات بها، دون اكثرات او رقابة من السلطة المحلية والسلطات التنفيذية في المدينة، والتي شجعت على ذلك وأوصلت الكهرباء وخطوط الهاتف إلى قمة الهضبة، وبعض المنظمات تكفلت بإيصال المياه للساكنين هناك.
تهديد لسلامة الصرح التاريخي
يشكل البناء العشوائي المتواصل في محيط"كهوف البومس" خطرا شديدا يهدد هذا الصرح التاريخي، ويشوه ملامح احدى اهم الاماكن التاريخية في المدينة، وهو ما يدفع كل مرة العديد من ابناء مدينة عدن بتجديد مناشداتهم للجهات المعنية بضرورة التدخل ووقف هذا الاعتداء واللا مبالاة، والعمل بحزم لحماية هذا الارث العظيم، واعطائها الاهتمام المستحق، وابرازه بأبهى حلة، لا الاكتفاء بدور المتفرج امام الاعمال التعسفية والبناء العشوائي والغير قانوني، املا في انقاذ اعجوبة من عجائب هذه المدينة.
وكان قد عبر " الأستاذ وديع أمان" - صاحب حملة أبناء عدن لنبذ الظواهر السلبية والدخيلة- عن غضب الشارع العدني تجاه أعمال البسط على كهوف البوميس ومحاولة البناء عليها وإعتبارها مجرد قطعة أرض عادية، ومحاولة قيام البعض بتحويل هذه الكهوف التاريخية إلى خزانات تفريغ صرف صحي.
حلول ومقترحات للاستفادة من كهوف البومس كصرح تاريخي ومزار سياحي.
تملك الكهوف القديمة أهمية سياحية بالغة لدى الكثيرين حول العالم، لما تقدمه من لوحات رائعة للمنحوتات الطبيعية البديعة، التي تتباين بين البلورات والكريستالات الكربونية والجبسية، فتحمل تراثا طبيعيا يحكي قصة وتاريخ تلك الكهوف وما عاصرته أمم وأزمان، كما أنها تعدّ قبلة للمهتمين بعالم الجيولوجيا. والسياحة الطبيعية والجيولوجية، وان تم استغلالها بشكل صحيح فسيحدث الأمر نقلة نوعية في مفهوم السياحة في عدن بشكل خاص وباليمن ككل، ولا سيّما تلك السياحة التي تعتمد على مفردات البيئة المختلفة التي لم تصل إليها أيادي الحداثة.
ويشير الخبراء إلى أن للكهوف أهمية اقتصادية كبيرة نظرا لكثرة مرتاديها واستقطابها لشرائح وأعداد كبيرة من السياح الذين تتنوع هواياتهم بين المغامرة والترفيه والرياضة.
وتساهم مشاريع تطوير الكهوف في تنشيط السياحة البيئية لتلك المواقع المتميزة ببيئتها الطبيعية البكر، والمتمثلة في الغطاء النباتي الكثيف وتواجد الأحياء البرية والطيور واعتدال المناخ، ما ساهم في تدفق السياح طوال العام على تلك المناطق الخلابة.
ويمكن تحقيق ذلك بطرق عدة كأن تسعى الحكومة مثلا ممثلة في وزارة السياحة إلى تشجيع الاستثمار في تنمية القطاع السياحي وذلك باستغلال الإمكانات والموارد السياحية لسلسلة جبال شمسان بداية بمعبد الصمت، والصهاريج مرورا بكهوف البومس، من أجل الدفع بتنمية وتطوير السياحة والذي سيكون من شأن هذا التوجه الإسهام في تحقيق خطة تنمية متعاقبة وتشجيع الاستثمار السياحي بشكل عام وتوفير مزيد من فرص العمل للقوى العاملة الوطنية.
وكي يتحقق ذلك هناك طرق عدة، إحداها إعلان طرح منافسة لكل من الشركات والمؤسسات والمستثمرين الأفراد (سواء المحلية أو الدولية) ذات الإمكانيات والقدرات والفنية التقدم بمقترحاتها وتصوراتها لتطوير الكهف والمنطقة المحيطة به، وان يتم وضع شروط صارمة على المتنافسين في أن تكون الرؤية والمقترحات المقدمة لتطوير الكهف مراعية لمبادئ وعناصر التنمية السياحية المستدامة ومتضمنة لجوانب إدارة وتشغيل للكهف بصفته موقعا طبيعيا متميزا، إضافة إلى أن تكون جميع التصورات المقدمة للبنية الأساسية لمكونات المشروع صديقة للبيئة، وأن تراعي وتتجانس مع المكونات الطبيعية للكهف للحفاظ على القيمة الطبيعية للكهف.