�نا عدن | خاص
خالد صافي
ناشط سياسي واعلامي فلسطيني|
في الوقت الذي يتعرض فيه قطاع غزة لإبادة جماعية ممنهجة، تشهد "المؤسسة العسكرية" الإسرائيلية واحدة من أخطر الأزمات البنيوية في تاريخها.
إنها أزمة "رفض" غير مسبوقة للخدمة العسكرية، تتجاوز في حجمها وعمقها كل ما عرفته إسرائيل منذ اجتياح لبنان عام 1982، مرورًا بالانتفاضتين الفلسطينيتين، وصولًا إلى اللحظة الراهنة حيث تتقاطع الحرب على غزة مع الانهيار الداخلي في جبهة الاحتلال.
من “شعب الجيش” إلى “الرافض الجماعي”
منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي، تم نسج فكرة “جيش الشعب” كعمود فقري للمجتمع الصهيوني، حيث يخدم الجميع، ويقاتل الجميع، ويُمجّد الجميع فكرة التضحية. لكن هذا التصور بدأ يتهاوى؛ فالأرقام المسربة من داخل جيش الاحتلال تشير إلى انسحاب أكثر من 100,000 جندي احتياطي من الخدمة، فيما تراجعت نسب الحضور من 120% بعد 7 أكتوبر إلى أقل من 60% مؤخرًا.
الأمر لم يعد مجرد تململ، بل هو رفض معلن، جماعي، ومتصاعد.
الرافضون الجدد: طيارون ونخبة المخابرات
هذه الموجة ليست احتجاجًا على أداء فاشل فحسب، بل تمردًا داخليًا على بنية سلطوية تُحوّل الجنود إلى أدوات في معارك سياسية وأجندات متطرفة. فخلال الاحتجاجات ضد الانقلاب القضائي الذي يقوده نتنياهو، وقّع المئات من جنود النخبة وطياري سلاح الجو ووحدة 8200 على بيانات رفض، معتبرين أن:
“التحول القضائي يُنهي ما تبقى من ديمقراطية الدولة، ويحوّل القضاء إلى ذراع سياسي”.
بل إن إحدى رسائل الطيارين كانت صريحة إلى حد الوجع:
“لن نطير لأجل نتنياهو، بل سنستخدم أيام الخدمة للاحتجاج ضده في الشارع”.
لماذا يرفضون؟ بين الأخلاق والسياسة والاقتصاد
تتعدد دوافع الرفض بين:
الرفض الأخلاقي:
بعد مشاهدة المجازر في غزة، لم يعد بإمكان بعض الجنود تنفيذ أوامر بالحرق أو القصف دون أن ينهار ضميرهم.
الرفض الاقتصادي:
48% من جنود الاحتياط خسروا وظائفهم أو دخلهم منذ بداية الحرب.
الرفض السياسي:
كثيرون باتوا مقتنعين بأن هذه الحرب ليست للدفاع عن الدولة بل لإنقاذ رأس نتنياهو من المحاكمة والسقوط.
الرفض الوجودي:
الجندي الإسرائيلي اليوم يسأل نفسه: “هل الدولة التي أُقاتل لأجلها، تقف بجانبي إن سقطت؟” والإجابة غالبًا: لا.
المقاومة المدنية:
بين تل أبيب وغزة.. ساحة نضال مشتركة؟
تزامنًا مع موجة الرفض العسكري، تشهد إسرائيل انتفاضة مدنية داخلية هي الأكبر منذ تأسيسها. مظاهرات بالمئات في الشوارع، اعتصامات أمام الكنيست، تعطيل محطات القطارات، وإضرابات عامة. حتى النخبة الاقتصادية بدأت بالانسحاب، فهبط الشيكل بنسبة 10% أمام الدولار، وبدأت موجات بيع واسعة للأسهم الإسرائيلية.
هذه ليست مجرد احتجاجات على قوانين.. بل هي زلزال سياسي مجتمعي يُعيد تعريف علاقة الإسرائيليين بجيشهم، ودولتهم، ومشروعهم الصهيوني كله.
من رفض صغير إلى تحوّل كبير
في مقال نشره أحد نشطاء “رفض الخدمة” الذين قضوا سنوات في السجن إبّان الانتفاضة الثانية، يقول:
“كل جيل من الرافضين يبدأ من قضية صغيرة.. ثم يكتشف الحقيقة الكبرى: أن الاحتلال هو أصل الخراب، وأن القتال من أجله لا يمكن تبريره”.
الكاتب ذاته يرى أن هذه الموجة الجديدة تمثل فرصة ذهبية لإعادة توجيه البوصلة داخل إسرائيل، ولإحداث تحول جذري طويل الأمد، كما حصل في نضالات الشعوب الأخرى ضد الأنظمة العسكرية والاستعمارية ، ماذا يعني هذا لنا كفلسطينيين؟
رغم أن كثيرًا من هذه الاحتجاجات لا تُجاهر بموقف صريح ضد الاحتلال، إلا أن التشقق في جدار الطاعة العسكرية الإسرائيلي هو مكسب تاريخي. فحين يرفض الجندي تنفيذ أوامر الحرب، يتوقف سلاح الطيران عن التحليق، وتتراجع القدرة الاستخباراتية، ويضعف القرار السياسي.
وهنا يصبح دورنا – نحن المدافعين عن العدالة لفلسطين – مزدوجًا:
استثمار هذا التصدع في كشف عنصرية المشروع الصهيوني أمام العالم.
دعم أصوات الرفض من الداخل التي تُدرك أن العدالة لا تتجزأ، وأن العدوان على غزة ليس شرفًا بل وصمة عار في جبين الصامتين.
الجيش الذي لا يُهزم.. يهتز
ربما لم تصل هذه الموجة بعد إلى حد تفكيك جيش الاحتلال، لكنها بلا شك أصابته في مقتل من الداخل.
فحين يتحول الرافض إلى بطل، والمجند إلى عبء، والمجتمع إلى مشكك، فإن المنظومة كلها تهتز.
وفي غزة.. حيث لا كهرباء ولا ماء ولا طائرات F-35، هناك من يُقاوم.
وفي تل أبيب.. حيث أكبر آلة حرب في المنطقة، هناك من يرفض أن يكون جزءًا منها.
تلك ليست مصادفة، بل ربما بداية النهاية.