الرئيسية - أخبار محلية - في زمن الاصطفاف.. عُمان تقف حيث يولد الأمل

في زمن الاصطفاف.. عُمان تقف حيث يولد الأمل

الساعة 10:00 مساءً (هنا عدن/ خاص )

في زمن الاصطفاف.. عُمان تقف حيث يولد الأمل

بقلم : علي الحداد



في مشهد إقليمي يتقاطع فيه دخان الحروب مع صمت المساعي الدبلوماسية، تعود سلطنة عُمان لتُثبت مرة تلو الأخرى أنها ليست دولة تقع على هامش الجغرافيا السياسية، بل مركز اتزان ووزن أخلاقي نادر في زمن تُثقل فيه المصالح كاهل المبادئ. فمن خلال وساطتها الأخيرة بين صنعاء وواشنطن، وتحديداً بعد مفاوضات معقدة شهدتها مسقط وصنعاء بالتوازي مع تفاهمات هادئة مع واشنطن، تم التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار بين الجانبين، يشمل التزاماً بعدم استهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر وباب المندب. هذا الاتفاق، الذي قد يبدو تقنياً في ظاهره، يخفي وراءه خريطة دقيقة من الجهد السياسي، والمخاطر المدروسة، والانحياز العُماني الدائم لقيمة الإنسان قبل الحسابات الصلبة.

إن النجاح في تحييد التصعيد في هذا التوقيت الحرج يحمل أبعاداً عميقة. فالبحر الأحمر لم يعد مجرد ممر مائي، بل تحوّل إلى ساحة تجاذب عسكري وسياسي بين أطراف دولية وإقليمية، وكل حادث فيه يمكن أن يُشعل فتيل حرب أوسع. في هذا السياق، يأتي الاتفاق كإنقاذ جماعي من انزلاقٍ نحو مواجهة غير محسوبة، كانت لتؤثر على الاقتصاد العالمي، وتُعرض أمن الملاحة الدولية للخطر، وتمتد شظاياها إلى مجتمعات هشّة أصلاً في اليمن والمنطقة.

ما يميز السلطنة في تحركها هذا، هو أنها لم تكن مجرد ناقل رسائل بين طرفين متخاصمين، بل كانت قوة دافعة لإقناع كل طرف بجدوى التهدئة، لا من منطلق التكافؤ العسكري، بل من منظور استراتيجي أوسع: أن الحرب المستمرة لن تجلب لأحد نصراً حقيقياً، وأن الحوار هو السبيل الوحيد للانتصار الآمن. لقد اختارت عُمان أن تكون أرضاً للثقة حين عزّ الأمان السياسي، وأن تُنصت حين علا صراخ البنادق، وهذا ما جعلها قادرة على بناء مساحات مشتركة بين أطراف متناقضة، وأحياناً حتى متصارعة مع نفسها.

ولم يكن سهلاً أن تتقبل واشنطن ـ التي ترى في الأمن البحري أحد خطوطها الحمراء ـ فكرة التهدئة مع خصم مباشر يستهدف سفنها، لكنها وجدت في الطرح العُماني ما يوازن الكرامة والسياسة، ويحفظ ماء الوجه ويضمن التراجع دون إذلال. وفي المقابل، فإن الأطراف اليمنية المعنية كانت أكثر تقبلاً لأي وساطة تأتي من مسقط، إدراكاً منها أن السلطنة لا تسعى لمكاسب ميدانية أو تفاوضية، بل فقط لحماية ما تبقى من أمل لم يُقتل بعد تحت ركام الصواريخ.

هذا الاتفاق، وإن بدا ثنائياً، إلا أن صداه إقليمي، فهو يُنذر ببداية مسار جديد قد يُفضي إلى تهدئة شاملة إذا ما تبنّت قوى أخرى في الإقليم ذات المنهج العُماني القائم على الحياد النشط والبُعد عن الاستقطاب. كما يُرسل رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي أن النزاعات الكبرى لا تُحل بالضربات الاستباقية، بل بالأفكار الحكيمة والوساطات الصبورة.

إن نجاح هذه الوساطة يعكس دور سلطنة عمان المتصاعد في إعادة هندسة العلاقات في منطقة تتآكل فيها جسور الثقة. ففي زمن تحوّلت فيه الوساطات إلى صفقات، والمبادئ إلى أوراق تفاوض، لا تزال عمان تُثبت أنها تحتفظ بوجهها النظيف، وحضورها الهادئ، وصوتها المختلف. وها هي اليوم، لا تكتفي بمنع حرب بحرية جديدة، بل تضع لبنة في بناء سلام إقليمي أوسع، طال انتظاره، وكثيراً ما وُئد قبل أن يولد.

ولعلّ ما يُضفي على هذا الإنجاز العُماني طابعاً فريداً هو أنه لا ينبثق من حسابات الهيمنة أو الرغبة في التأثير السياسي، بل من قناعة متجذرة بأن السلام ليس رفاهية نخبوية، بل ضرورة إنسانية يُبنى عليها مستقبل الأوطان. في عالم ينهار فيه الإيمان بالوساطات النزيهة وتتراجع فيه القيم أمام منطق السلاح، تأتي سلطنة عُمان لتعيد الاعتبار لفكرة أن الحياد ليس موقف الضعفاء، بل سلاح الحكماء، وأن الحكمة لا تصرخ، لكنها تغيّر ما تعجز المدافع عن تغييره. وإذا كان هذا الاتفاق خطوة أولى، فإن الرؤية الأوسع التي تقودها مسقط تتجاوز وقف إطلاق النار، إلى بناء ثقافة تفاهم، ومنظومة استقرار تُعيد تعريف القوة بمعايير الإنسانية، وتمنح الأمل لشعوب أنهكتها الحروب، بأن في الأفق ضوء لا تراه العيون التي أغلقتها الكراهية