2025/04/27
غزة.. الطائرات "الزنانة" المسيرة.. الصوت الذي "يرعب" الاطفال والعائلات ويحرمهم "النوم" ويجعلهم "يترقبون" المجزرة القادمة

هنا عدن | متابعات
تراقب الطائرات المسيّرة "الزنانات" كل مناطق قطاع غزة، وكثيراً ما تطلق النار أو القذائف باتجاه كل ما يتحرك، حتى بات التعامل مع صوت محركها معركة إضافية يخوضها أهالي القطاع.

لا تفارق الطائرات الحربية من دون طيار بأنواعها وأحجامها كافة سماء قطاع غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي، وهي تُعرف شعبياً باسم "الزنانة" نتيجة شدة ارتفاع صوت محركها الذي "يزن" في آذانهم، ويترك آثاراً نفسية عميقة فيهم، خاصة عندما تحلق تلك الطائرات على ارتفاعات منخفضة.

وبات معظم أهالي قطاع غزة، حتى الأطفال منهم، يميزون صوت طائرات الاستطلاع من صوت الطائرات المسيّرة "كواد كابتر"، وهم في الكثير من الأحيان لا يتمكنون من مواصلة أحاديثهم لطغيان أزيز تلك الطائرات على أصواتهم، فضلاً عن أنها تبث الخوف في قلوبهم لأنهم يعلمون أن التحليق الدائري للطائرة وتركيزها على منطقة معينة يعنيان قرب استهدافها، إذ إنها تعطي إحداثيات المكان للطائرات الحربية، فيبقى الأهالي في حالة ترقب لمكان المجزرة القادمة، مع إدراكهم أن وجود "الزنانات" لا يقتصر على الإزعاج، وأن هذا الإزعاج قد يكون مقدمة لموت قادم.

وأعلنت وزارة الصحة في غزة، الجمعة، ارتفاع حصيلة العدوان منذ استئناف الحرب في 18 مارس/آذار الماضي إلى 1978 شهيداً و5207 إصابات، وارتفاع مجمل الشهداء منذ بدء حرب الإبادة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى 51 ألفاً و355 شهيداً و117 ألفاً و248 إصابة.
أصبح أزيز طائرات الاستطلاع الإسرائيلية جزءاً من حياة أهل غزة
يجلس المسن الفلسطيني موسى عبد السلام في صالة منزله بمدينة غزة، والتي بات سقفها مكشوفاً بعد تطاير ألواح "الأسبستوس" التي كانت تغطي سقف البيت بفعل قصف سابق قريب من المنزل، يشاهد في السماء طائرة مسيّرة إسرائيلية تصدر أزيزاً مرتفعاً، وتتحرك دائرياً، وتعلوها طائرة أخرى بحركة دوران عكسية في الدائرة نفسها. بعد قليل، زاد عدد الطائرات التي تدور في حلقات دائرية بشكل متواصل لتمسح المنطقة، واستمر ذلك لنحو الساعة من الإزعاج المركب بفعل تداخل أصوات أزيز الطائرات.

يجلس عبد السلام على كرسي بلاستيكي إلى جانب صديقه الذي يُكنى "أبو العبد" كما عرّف عن نفسه، وبالكاد كان صوتهما مسموعاً بسبب الأزيز المزعج. يقول لـ "العربي الجديد": "التزمنا الصمت طوال نحو عشرين دقيقة بفعل هذا التحليق المكثف للطائرات، فعندما نتحدث لا نسمع بعضنا لأن الأصوات مرتفعة والتحليق منخفض". ينظر إلى الأعلى، ومع انخفاض الطائرات المسيّرة تظهر بوضوح كل أجزائها الرمادية اللون، ويبدو شكل صواريخها واضحاً، يضيف: "صوتها لم يعد يزعجنا فقط، بل يجعلنا نترقب ما هو قادم".

ويفاقم تحليق تلك الطائرات الصراع النفسي داخل أهالي قطاع غزة، خاصة إذا ما استمرت بالدوران فوق سماء منطقة بعينها، سواء مربع سكني يضم عدة منازل، أو تجمع خيام، أو مركز إيواء، ويعيش جميع من يقع في تلك الدائرة في حالة يسودها الخوف والقلق الناجمان عن الصوت المزعج وتوقع إمكانية القصف.

في بعض الأحيان، لا ينتج عن التحليق المكثف الذي قد يستمر لساعات أو أيام أي استهداف، وهذا ما يجعل الحاج عبد السلام وغيره من المواطنين يعتقدون أنها تستخدم كأحد أساليب العقاب الجماعي وخلق حالة من عدم الاستقرار أو الطمأنينة بين الناس، إضافة إلى مهام التعقب وجمع المعلومات الاستخباراتية. ويوضح بنبرة ساخرة ممزوجة بمرارة الواقع: "البقاء في حالة ترقب أمر مقلق، فجميعنا ضمن دائرة ضحاياها المحتملين".

ومنذ مساء الأحد الماضي حتى صباح اليوم التالي، اختفى أزيز الطائرات بدون طيار من سماء معظم مدن قطاع غزة، ومرت ليلة هادئة ذكّرت الأهالي بأجواء الطمأنينة التي كانوا يعيشونها قبل الحرب، لكن ذلك أثار استغرابهم، وسادت التساؤلات على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصف البعض الأمر بـ "الهدوء الخادع"، فيما عبر كثيرون عن سعادتهم بالحصول على قسط من النوم الهادئ لأول مرة منذ بداية الحرب.

يقول الفلسطيني محمد حمدان لـ "العربي الجديد": "أصبح أزيز طيارات الاستطلاع الإسرائيلية جزءاً من روتين الحياة اليومي، وأشبه بمرض مزمن بتنا مكرهين عليه، فصوتها يطغى على أحاديثنا، ونضطر إلى الصمت حتى تذهب بعيداً ويختفي صوتها، إذ لا يمكن إكمال الحديث، والمفارقة أنه عندما تغيب نخاف أكثر من خوفنا من حضورها".

وعن تأثير صوتها على النفس، يضيف حمدان: "يكفي أنه يرسخ فينا أننا ما زلنا محتلين، وأن هذه الأرض ينبغي أن تحرر، ومن ناحية أخرى، نحن نراقب باستمرار حركتها في السماء نتيجة ذلك الصوت الذي بإمكانها أن تخفيه لكنها تتعمد إصدار الأزيز المزعج لتنغيص حياتنا اليومية، وجعلنا لا نشعر بأي نوع من الراحة أو الاستقرار النفسي. تشعر طوال الوقت بأنك مراقب، إضافة إلى أنها تقذف الرعب في النفوس، كما تحد من حركة الناس في فترات المساء، والكثيرون لا يستطيعون الخروج لقضاء أية حاجة، أو يؤجلونها لوجود صوت الطائرات في السماء".

ويرسخ أزيز الطائرات الإسرائيلية المسيّرة ذكريات مؤلمة لدى الكثير من أهالي غزة، إذ يذكرهم بما ارتكبته تلك الطائرات سابقاً من جرائم عايشوها، ولحظات استشهاد أفراد من أسرهم، أو تعرضهم للإصابة. من بين هؤلاء هنادي رضوان، والتي يجدد فيها الأزيز ما عايشته من معاناة وألم، وتحكي لـ "العربي الجديد": "نحن معتادون على صوت الزنانة منذ ما قبل الحرب، وإن كان الأزيز زاد خلال الحرب، حتى أصبح مزعجا.


وتضيف رضوان: "حوصرنا ونحن نازحون إلى حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، وكانت الطائرات المسيّرة ترصد أي حركة بالمكان لإعطاء إحداثيات للطائرات الحربية، وكانت تستهدف أي جسم متحرك، بينما كانت الطائرة المسيّرة (كواد كابتر) تحلق على علو منخفض فوق عمارتنا السكنية، وكانت تطلق النار علينا، وتسقط القنابل فوق السطح. كنت أميزها من صوت مراوحها، بينما أعرف الطائرة بدون طيار من صوت المحرك المرتفع. في إحدى المرات، أسقطت (الكواد كابتر) قنبلة في ممر العمارة، واستشهد إثر ذلك ابن خالي، وأصيبت جدتي، وخلق الانفجار حالة من الرعب التي لا تغادر تفاصيلها ذاكرتي. أصبحت عندما أسمع صوتها أتذكر هذا الحدث المؤلم، فقد كنت قريبة يومها من الموت".

وإضافة إلى أزيز الزنانات الذي لا يكاد يفارق سماء القطاع، وكأنه جزء من طبيعته، يستخدم جيش الاحتلال أسلوباً إضافياً في الحرب النفسية، يشمل بث تسجيلات صوتية بمكبرات صوتية عبر الطائرات المسيّرة "كواد كابتر"، يشبه صوت نباح كلاب، أو أطفال يبكون، أو نساء يصرخن. وتعتقد رضوان، أن "الهدف هو بث الرعب من جهة، ومن جهة أخرى دفع الناس إلى النظر من النوافذ لإظهار أماكن وجود الحياة لاستهدافها. أصوات كل الطائرات مزعجة، والحرب بحد ذاتها تؤرق حياتنا، وعندما أسمع الأزيز تبقى طوال الوقت أعصابي مشدودة من جراء حالة الرعب التي تسببها".

مع هدوء المساء في قطاع غزة، وسكون المناطق كافة، وتوقف حركة المارة والمركبات، يعاني الطلبة الذين يحاولون الدراسة من صوت الأزيز الذي يزداد ارتفاعاً وإزعاجاً خلال ساعات الليل، باعتباره الصوت الوحيد القادم من السماء مع سكون الحركة على الأرض تماماً.

يلجأ الطالب الجامعي عمر إبراهيم عزارة (22 سنة) النازح إلى منطقة المواصي غربي مدينة خانيونس، إلى استغلال فترات الليل لتلبية متطلبات الدراسة الجامعية الإلكترونية، كونه يعمل في النهار لتوفير مصدر دخل لأسرته في ظل الوضع المعيشي الصعب في غزة، لكن أزيز المسيّرات لا يوفر له أي فرصة للدراسة.

يقول عزارة لـ "العربي الجديد": "صوت الأزيز من أبشع الأصوات التي تدخل الأذن بلا استئذان، والصوت أشبه بمعركة لا تنتهي، حتى أنني صرت أخاف من قدوم الليل نتيجة شدة الأصوات، وبعض الطائرات تقترب لدرجة مرافقتها لنا ساعة بساعة، وكأنها خصصت لإيقاظ النائمين، وخاصة المرهقين من شقاء الحياة، وقد تجعلك مستيقظاً لساعات طويلة. لا أستطيع التركيز في مراجعة الدروس، وفي كثير من الأحيان يحدث خطأ في الإجابة بسبب الإزعاج، صحيح أنها تحلق في السماء، لكن صوتها يقتحم أذنيك، وكأنها ذبابة كبيرة تدور حول رأسك وتسبب صداعاً كبيراً وتشتيتاً متعمداً".

يضيف: "عندما تغيب الطائرة عن التحليق أشعر بجزء من طمأنينة الحياة التي كنا نعيشها قبل العدوان الإسرائيلي، لكن يظل القلق يرافقني لأني أعلم أن غيابها شر، وليس نجاة، وأدرك أنها غابت عني لتوقظ آخرين، ليكون اختفاؤها مقلقاً أكثر من ضجيج وجودها.

المصدر اونلاين

 

تم طباعة هذه الخبر من موقع هنا عدن https://huna-aden.com - رابط الخبر: https://huna-aden.com/news85127.html