2025/12/08
رئيس منظمة حقوقية: من سقطرى إلى عدن الى حضرموت.. اليمن لم يسقط صدفة بل "التدخل الإقليمي" أفقد الدولة القدرة على إدارة شؤونها

 هنا عدن | مقالات
توفيق الحميدي
رئيس منظمة سام للحقوق والحريات |

منذ بدايات الحرب في اليمن، بدا التدخل الإقليمي مشروعاً معلناً لاستعادة الدولة ودعم مؤسساتها. غير أنّ مسار السنوات اللاحقة كشف عن واقع مغاير، واقع تشكّل تدريجيًا عبر خطوات محسوبة أدّت إلى نزع قدرة الدولة على إدارة شؤونها، وإحلال جماعات مسلّحة غير شرعية محل مؤسساتها، بحيث تحوّلت البلاد إلى بيئة فوضوية تُدار بعناية أكثر مما تُقاد نحو الاستقرار. وما بدا في ظاهره تحالفًا لاستعادة الدولة، سرعان ما تكشّف كمنظومة هندسية هدفت إلى إعادة توزيع القوة على الأرض على نحو يقوّض المؤسسة المركزية ويُنشئ تشكيلات محلية أكثر هشاشة وتبعية.

كانت سقطرى أوّل التجارب التي جرى فيها اختبار نموذج "القوة خارج الدولة"، ثم جاءت عدن لتكون مركزاً لتصفية الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية، فيما شهدت شبوة أعمق مراحل تفكيك الجيش الوطني وإخضاعه لصيغ محلية مدعومة خارجياً. لم تكن هذه المحطات أحداثاً معزولة؛ بل كانت مسارًا متصلاً يُعاد عبره تشكيل البناء العسكري والأمني لليمن وفق رؤى إقليمية لا علاقة لها بالدستور أو العقد الاجتماعي. وعلى طول هذا المسار، تحولت الاتفاقيات المرحلية – وفي مقدمتها اتفاق الرياض – من أدوات تسوية إلى أدوات لإعادة صياغة المشهد. فبدل أن تؤسس لاستعادة مؤسسات الدولة، شرعنت قوى الأمر الواقع، وذوّبت ما تبقى من المؤسسة العسكرية، وقيّدت الإرادة الرسمية ضمن حدود لا تتجاوز مصالح العواصم التي صاغت هذا المشهد وأدارته.

ومع الوقت، بدا أن إعادة بناء الدولة لم يكن ضمن أهداف هذه المنظومة. فجاء تشكيل مجلس القيادة الرئاسي خارج البلاد بوصفه تتويجا لمسار طويل من تفريغ الشرعية من مضمونها. إذ تشكّل المجلس وفق توازنات إقليمية، لا وفق إرادة وطنية، فبدا كهيكل سياسي هش، يفتقر إلى القدرة على اتخاذ القرار أو الدفاع عن مؤسسات الدولة، ويتحرك ضمن هامش ضيق يحدد من الخارج أكثر مما يُرسم من الداخل. وهكذا صار عنوان "استعادة الدولة" هو مجرد مسمى لمشروع مضاد للدولة نفسها؛ مشروع لإدارة الفوضى عبر أدوات محلية مسلّحة تستند إلى قوة الداعم أكثر مما تستند إلى القانون أو الشرعية.

وجاءت أحداث سيئون والمهرة لتكشف بوضوح أن هذا المسار لم يكن سلسلة من المصادفات، بل عملية متكاملة لإعادة هندسة القوة. فسيطرة قوات المجلس الانتقالي على سيئون خلال ساعات، وتقدمها نحو المهرة خلال يومين، لم يكونا مجرّد تصعيد ميداني، بل خطوة في مسار يعيد رسم الجغرافيا العسكرية. وحين تدخلت السعودية سريعًا لسحب قوات الانتقالي وإحلال وحدات "درع الوطن" في نطاق المنطقتين العسكريتين الأولى والثانية، لم يكن ذلك استعادة لسلطة الدولة، بل إعادة توزيع للأدوار داخل إطار الفوضى ذاتها، بحيث تُستبدل القوة الرسمية التاريخية بقوات هجينة موالية للخارج، ويُحكم إغلاق الطريق أمام أي إمكانية لإعادة بناء مؤسسة عسكرية وطنية موحّدة.

وأي قراءة قانونية وسياسية لهذه التحركات تكشف أنها لم تُعِد الاعتبار للمؤسسة العسكرية بل زادت من تفتيتها. فالمنطقة العسكرية الأولى والثانية كانتا آخر ما تبقّى من خطوط الجيش النظامي، واستبدالهما بقوى أمر واقع يخلق بيئة عسكرية هشّة، متضادة المصالح، ويجعل اليمن في حاجة مستمرة للطرف الإقليمي باعتباره الضامن الوحيد لمنع الانفجار لا لتحقيق الاستقرار. وهكذا اكتمل هذا النمط في كل الجغرافيا: تفكيك القوة الصلبة، وتكريس قوات محلية منفصلة الولاءات، وإدارة توازن هشّ يبقي الدولة في أطراف المشهد.

بهذه الصورة، يصبح ما جرى في سيئون والمهرة امتدادا طبيعيا لما بدأ في سقطرى وعدن وشبوة. ليست القضية صراعًا على النفوذ المحلي، بل إعادة تشكيل شاملة للخرائط، بحيث تُنهك مؤسسات الدولة، وتُقوّى جماعات مسلّحة موازية، ويُعاد توزيع القرار على شكل مربعات نفوذ يديرها الخارج أكثر مما يضبطها الداخل. وتحت هذا النسق، يجد اليمن نفسه اليوم أمام ثلاثة مسارات محتملة: الأول استمرار التفكيك، وهو الأكثر انسجامًا مع الوقائع؛ حيث تُستبدل الهياكل الرسمية بتشكيلات هجينة يوضع ولاؤها وقرارها في يد العواصم الراعية. والثاني تجميد الوضع القائم، وإدارة البلاد كمناطق نفوذ منفصلة تُترك بلا دولة مركزية ريثما تنضج تفاهمات دولية. أما المسار الثالث، وهو الأكثر انسجاما مع المصلحة اليمنية لكنه الأقل احتمالاً، فيتمثل في استعادة القرار الوطني عبر إعادة بناء المؤسسة العسكرية كجسم واحد، وإعادة تعريف الشرعية بوصفها إرادة شعب لا مخرجات تفاهم خارجي.

وإزاء هذا المشهد، يتلاشى سؤال "كيف سقطت الدولة؟" ليحل محله سؤال أكثر عمقًا ووجعًا: "كيف صُنع سقوط الدولة؟" فالأحداث من سقطرى إلى عدن، ومن شبوة إلى سيئون والمهرة، تشي بأن الانهيار لم يكن نتيجة، بل عملية مُحكمة بُنيت خطوة بعد أخرى، حتى باتت اليمن جغرافيا تُدار بقوة السلاح وميزان التدخل، لا بقوة القانون والمؤسسات. ويبقى مخرج اليمن الوحيد رهينًا بقدرة القوى الوطنية على إعادة وضع المشروع الوطني في مركز الفعل، وإحياء الشرعية بما هي مرجعية قانون وحق جماعي، لا مجرد توافقات خارجية تُحوِّل الدولة إلى إطار شكلي فارغ تُعاد صياغته بحسب مصالح اللاعبين الإقليميين لا بحسب حاجة اليمنيين ولا مستقبلهم.
(المصدر اونلاين)

تم طباعة هذه الخبر من موقع هنا عدن https://huna-aden.com - رابط الخبر: https://huna-aden.com/news87342.html