
نشرت منصة “دارك بوكس” الإخبارية، تحقيقًا استقصائيًا يكشف عن نشاط منظم تقوده دولة الإمارات لاستهداف الأصوات السياسية والإعلامية الداعمة للقضية الفلسطينية داخل فرنسا، وعلى رأسها حزب فرنسا الأبية اليساري.
وخطورة ما كُشف لا تكمن فقط في طبيعة الاستهداف، بل في الجهة المستهدفة: حزب سياسي فرنسي شرعي، له حضور برلماني وشعبي واسع، ويقوده جان لوك ميلانشون، أحد أبرز الوجوه السياسية والمرشحين الرئاسيين السابقين.
ولم يطلق ميلانشون اتهاماته في فراغ، بل أعلن صراحة أن حزبه أصبح “هدفًا للإمارات”، وهو تصريح تُرجم عمليًا بتقدم الحزب بشكوى رسمية إلى المدعي العام الفرنسي، في خطوة نادرة تعكس حجم القلق من تدخل خارجي يمس السيادة الفرنسية نفسها.
وقد ربط تحقيق دارك بوكس هذا الاستهداف بنشاط إعلامي “مموّه” تقوده منصات رقمية، أبرزها مجلة Écran de Veille – شاشة التوقف، التي نشرت استبيانات ومحتوى بدا موجّهًا لإثارة الهلع من “أسلمة فرنسا”، في إعادة إنتاج فجّة لخطاب اليمين المتطرف ولكن بواجهات إعلامية تزعم “الحياد البحثي”.
ودفع هذا الخطاب منظمات إسلامية عدة إلى تقديم شكاوى رسمية، معتبرة أن المجلة تمارس تحريضًا ممنهجًا ضد المسلمين.
الأخطر أن التحقيق كشف الصلات العضوية بين هذه المجلة ومنظمة أخرى تُدعى Global Watch Analysis، المعروفة بتبنيها الخطاب السياسي الإماراتي، وشنّها حملات متكررة ضد قطر، وضد أي فاعل أو تيار يُصنّف – بفضفاضية مقصودة – ضمن “الإسلام السياسي”. مؤسس هذه المنظمة، أتمان تزجارت، شخصية معروفة بعدائها الشرس للثقافة الإسلامية، ووفق التحقيق على صلة بشركة استخبارات سويسرية تُدعى Alp Services.
وأكدت منصة دارك بوكس اطلاعها على وثائق تشير إلى أن هذه الشركة لعبت دورًا محوريًا في إعداد ملفات تستهدف آلاف الأفراد ومئات المنظمات في أوروبا، عبر ربطها قسرًا بجماعة الإخوان المسلمين، ومن بينها حزب فرنسا الأبية نفسه. نحن هنا لا نتحدث عن صحافة تحقيقية، بل عن نمط أقرب إلى “الوسم السياسي” الذي يُستخدم كسلاح لتشويه الخصوم وتجفيف شرعيتهم.
قلق حزب فرنسا الأبية تضاعف مع استدعاء شخصيتين مرتبطتين بمجلة شاشة التوقف، نورا بوسيجني وإيمانويل رازافي، للشهادة أمام لجنة تحقيق برلمانية حول ما يسمى “الاختراق الإسلامي” للسياسة الفرنسية. استدعاء كهذا، في سياق مشحون بالإسلاموفوبيا، يُظهر كيف يمكن لهذه الأذرع الإعلامية أن تنتقل من التشهير الإعلامي إلى التأثير المباشر في عمل البرلمان.
وبحسب التحقيق، دفعت الشكاوى المتراكمة وزارة الداخلية الفرنسية إلى فتح تحقيق رسمي حول التدخل الإماراتي، خاصة بعد قضية النائب كارلوس مارتينس بيلونجو، الذي انتقد الدور الإماراتي خلال قمة المناخ 2023. الرجل وُوجه بتقرير اتهمه زورًا بجرائم مالية، قبل أن يتبيّن لاحقًا أن الملف مفبرك، وأنه جاء في سياق ضغوط مرتبطة بالإمارات.
كل ذلك لا يمكن فصله عن الإطار الأوسع للسياسات الإماراتية. نقطة البداية كانت العداء للإسلام السياسي، والتحالف مع أنظمة استبدادية، وفي مقدمتها النظام المصري، تحت ذريعة “مكافحة الإخوان المسلمين”.
لكن ما حدث لاحقًا هو انزلاق كامل نحو ثلاثية خطيرة: تحالف علني مع إسرائيل، بما في ذلك ملاحقة كل من يدعم فلسطين حتى داخل أوروبا؛ إشعال صراعات أهلية عبر تمويل ميليشيات ومرتزقة في ليبيا والسودان واليمن؛ ثم التحالف مع أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا لتغذية خطاب معادٍ للإسلام والمسلمين.
العداء للإسلام السياسي – مهما كان الموقف منه – لا يبرر التحالف مع هذا النموذج التخريبي. الإمارات لا تحارب “تطرفًا”، بل تُنتج تطرفًا مضادًا، وتحوّل أدوات الدولة إلى شبكة نفوذ عابرة للحدود، تضرب الديمقراطيات الأوروبية، وتستهدف الفلسطينيين، وتبتز الأنظمة العربية ماليًا وسياسيًا.
الأخطر أن هذا السلوك لا يزال يمر دون رد عربي جماعي. ارتهان بعض الدول، وفي مقدمتها مصر، للدعم المالي الإماراتي، شلّ قدرتها على اتخاذ موقف مستقل، وفتح الباب أمام سيطرة إماراتية على أصول استراتيجية وقرارات سيادية.
وعليه فإن ما يجري في فرنسا ليس شأنًا فرنسيًا داخليًا فحسب، بل إنذار مبكر لما يمكن أن تفعله هذه السياسات بالجاليات المسلمة وبالقضية الفلسطينية وباستقرار الدول. الصمت لم يعد خيارًا، والتعامل مع الإمارات كفاعل “محايد” لم يعد ممكنًا. نحن أمام نظام يصدّر التخريب، ويجب إيقافه عند حدوده، حمايةً لفلسطين، وللمجتمعات العربية، وللديمقراطيات التي باتت هي الأخرى هدفًا مباشرًا له.