
أصدرت منظمة سام للحقوق والحريات تقريرًا حقوقيًا موسّعًا بعنوان "لا أحد يحمي الضحايا" يوثّق الانتهاكات التي رافقت هجوم وسيطرة التشكيلات المسلحة للمجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات على محافظتي حضرموت والمهرة خلال ديسمبر/كانون الأول 2025.
وحذرت من أن ما جرى لا يمثل حادثًا عابرًا، بل يعكس مرحلة متقدمة من تآكل سلطة الدولة وتوسّع نفوذ تشكيلات مسلّحة تعمل خارج الإطار الدستوري والقانوني، في بيئة تتعدد فيها مراكز القوة وتتراجع فيها الولاية الفعلية للمؤسسات الرسمية.
وقائع تُنذر بتحول خطير
وقدّم تقرير المنظمة قراءة سردية لتسلسل الأحداث، واضعًا ما شهدته حضرموت والمهرة ضمن سياق ممتد منذ عام 2017، حيث برزت تشكيلات مسلّحة موازية للقوات الحكومية، وتعثرّت مسارات دمجها وإعادة هيكلتها، الأمر الذي انعكس على بنية الدولة وسيادة القانون.
ووفق التقرير، فإن محاولات “توحيد القيادة” بعد إنشاء مجلس القيادة الرئاسي لم تُحدث اختراقًا حاسمًا، في ظل بقاء سلاسل قيادة منفصلة، وتداخل أدوار قوى داخلية وخارجية، وتحوّل مناطق نفوذ إلى “سلطات أمر واقع” تفرض ترتيباتها بالقوة.
شهادات مباشرة وتحليل مفتوح المصدر
اعتمد فريق الرصد، بحسب ما ورد، على منهجية متعددة المصادر شملت مقابلات مباشرة مع ضحايا وشهود عيان عبر وسائل اتصال آمنة، ومراجعة وثائق وبيانات رسمية صادرة عن جهات حكومية وسلطات محلية وسلطات أمر واقع، إلى جانب تحليل مواد مفتوحة المصدر ومقاطع مصوّرة جرى التحقق من صحتها زمانيًا ومكانيًا، والاستعانة بخبراء في القانون الدولي الإنساني والتحقق الرقمي. وأشار التقرير إلى مراعاة السرية الصارمة للمصادر، وتقاطع المعلومات، واعتماد معايير حذرة للتحقق بسبب القيود الأمنية والميدانية.
تعثر الدمج وتكريس تعدد مراكز القوة
خلص التقرير إلى أن جذور التوتر تعود إلى مسار طويل من تراكم الاختلالات، أبرزها استمرار تشكيلات مسلّحة خارج مؤسسات وزارتي الدفاع والداخلية، وتعطل تنفيذ الترتيبات الأمنية والعسكرية المتفق عليها في اتفاق الرياض، مع ما ترتب على ذلك من واقع ميداني قائم على التنافس بين وحدات نظامية وأخرى موازية. كما أشار إلى انتقال نوعي في نمط السيطرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2025، عبر انتشار واسع في مناطق وادي حضرموت، وإزاحة وحدات حكومية من مواقع متعددة، والسيطرة على مرافق مدنية ومقار رسمية، رافقها فرض رموز وسلطات بديلة داخل المؤسسات.
أطراف متداخلة على الأرض
أورد التقرير أن الوقائع شملت قوات حكومية نظامية، وفي مقدمتها المنطقة العسكرية الأولى والثانية، باعتبارهما جزءًا من الهيكل النظامي للقوات المسلحة وفق الأطر القانونية اليمنية. وفي المقابل، تحدّث عن تشكيلات مسلّحة غير خاضعة فعليًا للمؤسسات الرسمية، من بينها قوات مرتبطة بالمجلس الانتقالي الجنوبي وتشكيلات أخرى متعددة المرجعيات. كما تناول دور تشكيلات محلية ذات طابع قبلي، أبرزها “قوات حماية حضرموت” المنبثقة عن مجلس قبائل حضرموت، والتي توسع نشاطها من إطار مطلبي إلى بنية مسلحة على الأرض.
اتهامات بلا تحقق علني
وقف التقرير مطولًا عند حملة اتهامات إعلامية استهدفت المنطقة العسكرية الأولى، تضمنت مزاعم بتهريب وتخزين مخدرات، وأخرى بتهريب أسلحة إلى جماعة الحوثي. وأوضح أن مراجعة المواد المتداولة لم تُظهر أدلة موثوقة قابلة للتحقق، مثل محاضر ضبط قضائية أو تقارير تحقيق مستقلة أو بيانات رسمية محايدة، معتبرًا أن الاتهامات ظلّت في نطاق الخطاب السياسي والإعلامي، دون أن ترتقي إلى مستوى وقائع مثبتة وفق معايير الإثبات المتعارف عليها.
قتل واحتجاز ونهب وتهجير وفرض أمر واقع
وثّق التقرير، وفق ما أورد، سلسلة من الانتهاكات المصاحبة لتوسع الانتشار العسكري وانتقال السيطرة، شملت اعتداءات على وحدات عسكرية نظامية، ووقائع قتل خارج نطاق القانون، واحتجازًا تعسفيًا، ومعاملة قاسية أو مهينة، إضافة إلى نهب واسع النطاق للممتلكات العامة والخاصة، وانتهاك حرمة المساكن، والاستيلاء على مرافق مدنية، وفرض رموز وسلطات بديلة داخل مؤسسات الدولة. وأشار إلى أن هذه الوقائع خلقت حالة خوف واضطراب مجتمعي واسع، وفاقمت من هشاشة الأوضاع الإنسانية في مناطق عدة.
نهب المنازل وتشريد الساكنين
تحدث التقرير عن عمليات اقتحام وانتشار في وادي حضرموت ومدينة سيئون، شملت دخول مقار حكومية ومدنية، وتقييد حركة موظفين وحراس، وامتداد الاعتداءات إلى منازل مسؤولين حكوميين ومنازل جنود وضباط، فضلاً عن فرض إجراءات قسرية على محلات تجارية وفتحها تحت التهديد ثم نهبها. كما أشار إلى وقائع استهداف سكان “البيوت الخشبية” ومخيم مريمة في سيئون، حيث نُهبت ممتلكات نحو 450 أسرة، بما في ذلك مدخرات وأدوات معيشية ومواشٍ، في سياق اعتبره التقرير انتهاكًا شديد الخطورة للحق في السكن والملكية والكرامة الإنسانية.
شهادات ميدانية: “خرجنا دون أن نحمل شيئًا”
ضمن قسم الشهادات، أورد التقرير إفادات متطابقة تفيد بوقوع نهب واسع استهدف 23 إلى 24 منزلًا في منطقة المساكن بمدينة القطن خلال ساعات طويلة، عقب دخول مجموعات مسلّحة، وإجبار السكان على مغادرة مساكنهم فورًا دون اصطحاب ممتلكاتهم. كما تضمنت الشهادات إفادات عن مشاركة بعض العناصر مباشرة في النهب، مقابل وجود آخرين يراقبون دون تدخل فعّال، بما أتاح استمرار الانتهاكات لساعات. وتناول التقرير أثر ذلك على الأسر، بما في ذلك نزوح قسري إلى محافظات مجاورة، وعيش في ظروف قاسية تفتقر للسكن الملائم والغذاء والملابس والرعاية الصحية، مع آثار نفسية شديدة على النساء والأطفال.
خسائر تجارية موثقة بكشوفات وصور
أشار التقرير إلى تلقيه وثائق تتضمن كشوفات وجداول محاسبية ومواد مصوّرة حول نهب محلات ومخازن في مناطق منها “سرا” وسوق سيئون، بما في ذلك محلات لبيع “الجنابي” ومستلزماتها. وذكر التقرير أن الوثائق عرضت تفاصيل دقيقة للبضائع المنهوبة وقيمها المالية، وصورًا لحالة المحلات قبل النهب وأثناءه وبعده، بما يُظهر حجم الخسائر، ويعزز—وفق عرض التقرير—وجود نمط نهب علني في ظل اضطراب أمني وغياب تدابير حماية فعّالة.
الاختطافات والاعتقالات التعسفية
وثّق التقرير عمليات مداهمة واعتقال في مدينة سيئون خلال ديسمبر/كانون الأول 2025، منها اعتقال أربعة أشخاص من منزل بحي مريمة يعود لضابط في المنطقة العسكرية الأولى، وواقعة مداهمة منزل عاقل حي الثورة فجر 16 ديسمبر/كانون الأول 2025 بمشاركة آليات ومجموعة نسائية للتفتيش. كما أورد معلومات عن توقيف مدنيين في مدينة الشحر بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الأول 2025، دون إبراز أوامر قضائية أو إعلان أماكن الاحتجاز أو تمكين الأسر من التواصل. ولفت إلى مخاطر الإخفاء القسري عند احتجاز أشخاص في أماكن غير معلومة وحرمانهم من الاتصال بمحامين وذويهم.
حملات رقمية وتهديد للصحفيين والنشطاء
رصد التقرير تنامي حملات رقمية منسّقة على منصات التواصل تدعو للانفصال تحت مسمى “دولة الجنوب العربي”، وقال إن تحليلًا لمنصة “إيكاد” أشار إلى تضخيم منظم عبر حسابات وصفها بأنها “وهمية”، حيث غلبت إعادة النشر على المحتوى الأصلي بصورة لافتة، مع اتساع التفاعل على وسوم مرتبطة بالحملة. وفي سياق متصل، وثّق التقرير خطابًا تحريضيًا ضد صحفيين وفاعلين إعلاميين في حضرموت، وأورد أسماء عدد ممن تعرضوا لتهديدات، إلى جانب رصد تهديدات تطال ناشطين ومدافعين عن حقوق الإنسان، من ضمنهم الناشطة يسرى البطاطي، بما اعتبره التقرير مؤشرًا على بيئة ترهيب قد تُشرعن العنف وتضيّق الفضاء المدني.
الضحايا والأثر الإنساني
قدّم التقرير بيانات عن حركة نزوح داخلية من وادي حضرموت إلى محافظة مأرب، موثقًا تهجيرًا قسريًا لنحو 374–375 أسرة، بمتوسط 5.6 أفراد للأسرة، وتوزعهم على مخيمات ومواقع إيواء مكتظة. وأشار إلى هشاشة البنية التحتية ونقص الخدمات الأساسية، ومحدودية الوصول للرعاية الصحية، وغياب ضمانات الحماية، مع آثار نفسية واجتماعية حادة بسبب الصدمة وفقدان الاستقرار ومصادر الدخل.
التزامات إنسانية ومسؤوليات محتملة
حلّل التقرير الوقائع في ضوء قواعد القانون الدولي الإنساني، ولا سيما المادة (3) المشتركة من اتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الثاني، إلى جانب التزامات القانون الدولي لحقوق الإنسان والمرجعيات الوطنية. وأوضح أنه لا يخلص إلى توصيفات قضائية نهائية، لكنه يشير إلى أن بعض الأفعال الموثقة قد تثير مسؤوليات جنائية فردية أو قيادية إذا ثبتت عناصرها أمام جهات قضائية مختصة، كما قد تثير مسؤوليات دولية إذا ثبتت السيطرة الفعلية أو الإسهام الحاسم من أطراف داعمة في تغيير موازين السيطرة أو تمكين وقوع الانتهاكات.
غياب دور رسمي ومخاوف من الإفلات من العقاب
لفت التقرير إلى أن توجيهات صدرت بضرورة توثيق الانتهاكات وفتح تحقيقات، غير أنه انتقد غياب موقف واضح من وزارة حقوق الإنسان خلال الفترة المشمولة، معتبرًا أن الصمت الرسمي يقوض فرص الإنصاف، ويبعث برسالة تساهل مع الانتهاكات بدل التعامل معها كقضية وطنية تستوجب الشفافية والمحاسبة، خاصة مع تعدد الشهادات والتقارير عن تجاوزات طالت المدنيين وممتلكاتهم.
دعوات للتهدئة ورفض فرض الوقائع بالقوة
أورد التقرير أن التطورات تزامنت مع مواقف دولية عبّرت عن القلق من التصعيد، وأبرز دعوات لخفض التوترات ورفض الإجراءات الأحادية وإعادة رسم الخرائط بالقوة، والتأكيد على حماية المدنيين واحترام القانون الإنساني الدولي، مع التشديد على أن الحل السياسي عبر الحوار والدبلوماسية هو المسار الوحيد لتفادي اتساع دائرة التوتر.
خطوات عاجلة لوقف الانتهاكات
اختتم التقرير بالتأكيد على أن وقف تدهور الوضع يتطلب إجراءات عاجلة تبدأ بتحقيقات مستقلة ومحايدة وفعّالة في جميع الانتهاكات الموثقة، وحماية الضحايا والشهود، ومساءلة المسؤولين وفق المعايير الوطنية والدولية. كما دعا إلى وقف أي دعم عسكري أو أمني للتشكيلات المسلحة الخارجة عن مؤسسات الدولة، والعمل على توحيد القوات تحت قيادة رسمية خاضعة للرقابة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، ومعالجة أوضاع النازحين وجبر الضرر، بما يشمل التعويض ورد الحقوق وضمانات عدم التكرار، بوصف ذلك شرطًا أساسيًا لكسر دائرة الإفلات من العقاب وإعادة بناء الثقة العامة.