بقلم : علي الحداد
في مايو 2025، تتجه أنظار العالم بقلق متصاعد نحو شبه القارة الهندية، حيث عاد النزاع التاريخي بين الهند وباكستان إلى الواجهة في واحدة من أخطر جولاته، وسط مخاوف جدية من انزلاق المنطقة إلى مواجهة نووية غير مسبوقة.
التصعيد الأخير في كشمير، الذي بدأ بسلسلة تفجيرات دامية أودت بحياة عشرات المدنيين، أعاد فتح ملفات الصراع الأكثر تعقيدًا في العالم، وأخرج الخطاب النووي من إطار الردع النظري إلى تصريحات متبادلة تُظهر هشاشة الاستقرار الإقليمي وارتباك الحسابات الاستراتيجية للطرفين.
الهند، التي سارعت إلى اتهام إسلام آباد بالضلوع في الهجمات، ردّت بتعليق معاهدة مياه نهر السند، في خطوة مثيرة للجدل قانونيًا وإنسانيًا، فسّرتها باكستان على أنها عمل عدائي خطير وتجاوز صريح للأعراف الدولية.
تزامن ذلك مع سحب نيودلهي سفيرها من إسلام آباد، وإغلاق عدد من القنصليات الحدودية، ما عنى عمليًا تجميد العلاقات الدبلوماسية.
وفي تطور لافت، أغلقت باكستان مجالها الجوي أمام الطيران المدني والعسكري الهندي، وردّت الهند بإعلان التعبئة الجزئية لقواتها الشمالية.
على الأرض، تواترت الأنباء عن تحركات عسكرية استثنائية على خط المراقبة في كشمير، بينما باشرت مجتمعات محلية في الجانبين بناء ملاجئ بدائية، في مشهد يشي بقرب انفجار محتمل. قوات النخبة الباكستانية بدأت مناورات ليلية على مقربة من الحدود، في حين نقلت الهند بطاريات دفاع جوي من طراز “باراك-8” إلى المناطق الشمالية، ما فسّره مراقبون بأنه استعداد لردع هجوم صاروخي محتمل.
التحول الأخطر تمثل في إدخال التهديد النووي إلى صلب الخطاب السياسي.
السفير الباكستاني في موسكو أشار بوضوح إلى استعداد بلاده لاستخدام “كامل الطيف القتالي”، في إشارة إلى إدراج الخيار النووي ضمن خيارات الردع الفعلي، بينما أكد وزير الدفاع أن أي عدوان واسع النطاق قد يُقابل بحرب شاملة.
من جانبها، أجرت الهند تجربة ناجحة لصاروخ “أغني-5” بعيد المدى، في رسالة رمزية تؤكد جاهزيتها للردع الاستراتيجي، بالتوازي مع تصريحات رسمية تلوّح بإمكانية “مراجعة العقيدة النووية” في حال استمرار التهديدات.
التفوق التقني المتنامي للطرفين لا يُلغي الواقع المرير الذي يتمثل في هشاشة الردع.
فباكستان طورت أسلحة نووية تكتيكية قصيرة المدى، ما يزيد من احتمالية الاستخدام المحدود للسلاح النووي في الميدان، بينما تسعى الهند إلى إرساء نظام دفاعي ثلاثي الأبعاد يحمي عواصمها الكبرى. لكن هذا السباق لا يعزز الأمن، بل يضاعف احتمالات الخطأ أو التصعيد غير المحسوب.
دراسات محاكاة نشرت في دوريات علمية توقعت أن أي صدام نووي بين الجانبين، حتى لو بدأ بعمل إرهابي أو اشتباك محدود، قد يؤدي إلى مقتل ما يزيد على 100 مليون إنسان خلال أسابيع، وإلى كارثة بيئية تُعرف بـ”الشتاء النووي”، حيث تنحجب أشعة الشمس بسبب السحب الإشعاعية، وتتدمر سلاسل الغذاء، ويعمّ الاضطراب المناخي العالم بأسره.
المعطيات التي تُغذي احتمالية التصعيد كثيرة، أبرزها استمرار النزاع حول كشمير، وتصاعد الخطاب القومي في الهند، والتفسير الباكستاني لهذا الخطاب باعتباره توسعيًا واستفزازيًا.
تعليق معاهدة مياه نهر السند يُضاف إلى قائمة طويلة من الإجراءات أحادية الجانب التي ترى فيها إسلام آباد تهديدًا وجوديًا مباشرًا.
إلى جانب ذلك، اتهمت باكستان الهند بتنفيذ عمليات “تخريب إلكتروني” استهدفت منشآت اتصالات ومراكز تحكم للطاقة قرب لاهور، في حين اتهمت الهند الاستخبارات الباكستانية بتغذية اضطرابات في ولاية البنجاب الهندية عبر شبكات رقمية ووسائط خارجية.
وفوق هذا كله، باتت القنوات الدبلوماسية مشلولة، في ظل تبادل طرد الدبلوماسيين وتجميد الحوار الرسمي، مع تصاعد نبرة الاتهامات المتبادلة بدعم الإرهاب والانخراط في حروب الظل.
ومع ذلك، لم تنقطع خيوط الأمل تمامًا.
فما يزال وعي القيادتين بالعواقب الكارثية لأي مواجهة نووية يشكل أحد عوامل ضبط النفس.
إلى جانب ذلك، فإن الضغوط الدولية تتزايد، لا سيما من الولايات المتحدة التي دعت لضبط النفس، وأبدى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب استعداده للوساطة، بينما يُنتظر من الصين — ذات المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الكبيرة في باكستان — أن تلعب دورًا تهدويًا فاعلًا. كما أن الأزمات الاقتصادية في باكستان، والطموحات الدولية للهند، تجعل من الحرب خيارًا مكلّفًا يصعب تحمّله.
في النهاية، ورغم أن المشهد لا يُنذر بانفجار فوري، إلا أن عقارب الساعة تتحرك في اتجاه غير مطمئن. ما زال بالإمكان التراجع، ولكن الثمن يرتفع مع كل يوم تُترك فيه الأزمة بلا حوار. إعادة فتح قنوات الاتصال بين نيودلهي وإسلام آباد لم تعد خيارًا دبلوماسيًا، بل ضرورة وجودية، قبل أن يتحول جنوب آسيا إلى مسرح لنار لن تبقي ولن تذر، ولن يتوقف صداها عند حدود الهند وباكستان وحدهما.
إن تفادي الكارثة لا يمكن أن يكون رهينة لحسن النوايا أو حسابات الردع الباردة، بل يتطلب تحركًا دبلوماسيًا شجاعًا ومسؤولية دولية حقيقية لإعادة إطلاق مسار تفاوضي جاد.
على المجتمع الدولي، خاصة القوى الكبرى والفاعلة في مجلس الأمن، أن تتحرك خارج إطار بيانات القلق، نحو مبادرات ملموسة لإحياء آليات الحوار الأمني بين الجانبين، وضمان حماية المدنيين، وتثبيت اتفاقات الحد من التصعيد.
وفي ظل تعقيد ملف كشمير، تبرز الحاجة إلى مسار متعدد الأطراف، لا يختزل الأزمة في بُعدها الثنائي، بل يتناول جذورها السياسية والإنسانية والبيئية.
فإما أن تكون الأزمة الحالية نقطة الانفجار، أو تتحول إلى لحظة وعي إقليمي جديد، يستبدل لغة التهديد بلغة العقل، ويمنح شعوب المنطقة حقها في الأمن والاستقرار بعيدًا عن شبح الفناء الجماعي .