ء..............
..........
الملاحظ اليوم بعد مرور أقل من أربع سنوات من انطلاقة ثورة الشباب في اليمن ان القوى التقليدية بأقسامها الثلاثة "السلالي والقبلي والعسكري" لازالت تمثل أبرز أطراف الأزمة اليمنية، حيث استطاعت تلك القوى ان تعيد اليمن إلى حلبة صراعاتها القديمة، بعيدا عن أهداف الثورة وتطلعات الثوار، وباتت اليوم تقترب من لحظة توازن القوة التي قد تصعد بأطراف الصراع الثلاثة للجلوس على طاولة تقاسم النفوذ والسلطة من جديد.
أدرك جيدا إن التغيير الشامل مهمة شاقة وطويلة، وإن نجاحها يتوقف على توفر عدة عوامل ذاتية وموضوعية، قد تكون غير متوفرة في الحالة اليمنية لحظة انطلاق ثورات الربيع العربي!. لكنها مهمة غير مستحيلة إذا استطاع شباب الثورة الحفاظ على نهج التغيير وإعادة تقييم التجربة الثورية ثم الانطلاق برؤى وأدوات جديدة لإنقاذ الثورة وتصحيح مسار التغيير..
أنا لا أقلل من تأثير العوامل الخارجية الإقليمية والدولية في إفشال ثورة 2011م وإعاقة مسيرة التغيير في اليمن، لكن الأسباب الداخلية سواء الموضوعية المتعلقة بالبيئة الحاضنة للاستبداد أو الذاتية المتعلقة بالثوار أنفسهم ستظل -من وجهة نظري- هي الأسباب الرئيسية التي تحتاج إلى النظر والتقييم والمراجعة والمعالجة كما قال الله تعالى: "قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ"، ومساهمة مني في تدارس هذه القضية سأحاول التركيز على أهم تلك الاسباب :
أولا: غياب الحامل السياسي للتغيير:
أي ثورة شعبية بدون طليعة سياسية لن تعدو أن تكون مجرد حالة غضب جماهيري عفوي، تنتهي بانتهائه، كما إن الطليعة السياسية لايمكن أن تصنع خارج ساحات الفعل الثوري، فمن المستحيل أن يتم بناء نظام سياسي جديد ببعض عناصر وأدوات النظام السابق، فهذا الخطأ الذي وقعت فيه ثورة الشباب في اليمن، هو ذات الخطأ المتكرر في تاريخ الثورات اليمنية منذ عام 1948م، وهو ذات الخطأ في أكثر ثورات الربيع العربي عندما تم اختزال الثورة في اسقاط شخوص رأس النظام، واعتماد الثوار على بعض أركان ذات النظام في إسقاط أركانه الأخرى.
هذا الخطأ هو الذي أفقد حركة التغيير في اليمن مسمى الثورة، وحولها الى مجرد أزمة سياسية محصورة بين مراكز قوى متصارعة على السلطة، أدت إلى تدخل دولي وإقليمي لحلها من خلال مبادرات للتسوية والمصالحة لم يكن شباب الثورة طرفا رئيسيا فيها لسبب بسيط وهو إن الثورة لم تتمكن من بناء جسم سياسي مستقل قادر على حمل أهدافها، بل من المتوقع -في ظل هذه الحالة- ان ينتهي مصير الصف الثوري إلى التآكل والإضمحلال وسيتحول شباب الثورة إلى مادة للاستقطاب السياسي من ذات القوى التي من المفترض أنهم ثاروا عليها..
إن إيجاد جسم سياسي ثوري ليس مجرد حاجة تستدعيها حالة الفعل الثوري، بل ضرورة مستمرة لنجاح العملية التغييرية، وليس المقصود بالجسم السياسي حزبا جديدا باسم الثورة يضاف الى قائمة الاحزاب، ولكن المقصود إيجاد إطار جبهوي جامع للقوى الثورية الحرة، فالأهداف الثورية الكبرى لن تحملها إلا تحالفات جبهوية ذات قاعدة عريضة تتجاوز الأطر الحزبية والإيديولوجية وتجتمع على وحدة الهدف الثوري ووضوح الرؤية التغييرية!
ثانيا: غياب الرؤية الاستراتيجية للتغيير:
على القوى التي ترفع شعار التغيير في اليمن أن تكاشف نفسها وتعترف بحقيقة عدم امتلاكها -إلى الان- لرؤية استراتيجية للتغيير الشامل، وإن غاية ماتمتلكه هو مجرد رؤى سياسية مجتزأة وبرامج ميدانية تدور حول هدف آني يتمثل في إسقاط رأس النظام ثم القبول بالمصالحة الوطنية في إطارها السياسي دون أن تتعداها الى التغيير بمفهومه الشامل!
فبدون مشروع ثوري يستهدف المنظومة السياسية والاجتماعية والثقافية الحاضنة للاستبداد والتخلف والفساد، فإن التغيير السياسي المحدود سيظل عرضة للانتكاسة والتراجع والانهزام أمام قوى النظام القديم التي ستظل قادرة على إعادة انتاج نفسها من جديد من رحم منظومتها الاجتماعية والثقافية المحتفظة بتماسكها، وفي نهاية المطاف ستتمكن تلك القوى من العودة للتحكم بالمشهد السياسي بذات الأشخاص والرموز أوبغيرهم، فإذا لم يتمكن "الحوثي" و"الأحمر" و"عفاش" بأشخاصهم من الجلوس على طاولة تقاسم السلطة والنفوذ في لحظة اختلال القوة اليوم، فسيأتي أبناؤهم غدا للجلوس على ذات الطاولة في لحظة توازن الرعب، وبالتالي سيظل مصير اليمن دائرا في فلك تلك القوى في تصارعها وتصالحها.
ثالثا: تسليم قيادة الثورة لأحزاب المعارضة:
جاءت ثورة التغيير عام 2011م والمعارضة السياسية محصورة في أحزاب بعضها مثقلة بتاريخ شمولي دموي في ممارسة السلطة ولاتزال مسكونة بهاجس الخوف من الثأر السياسي والانتقام من تاريخ صراعاتها السابقة، وأحزاب أخرى صنعتها تحالفات مرحلة الحرب الباردة فطال عليها الأمد فأصبحت واقعة تحت وطأة وهيمنة قوى قبلية تمثل الشطر الآخر للنظام العائلي الحاكم، وثالثة ليست سوى واجهات سياسية للقوى الأكثر تقليدية المتضررة من الثورات السابقة..
هذه الأحزاب -بحالها الذي كانت عليه لحظة انطلاق الثورة في فبراير 2011م- لم تكن مهيأة لقيادة ثورة شعبية من أجل التغيير الشامل، بل كانت إلى قبيل الثورة بأسابيع قليلة تتهيب النزول إلى الشارع وتخشى من الدخول في صراع صفري مع النظام وتفضل خيار المعارضة النسبية في إطار الممكن السياسي، لكن ضغط الربيع العربي جعلها تؤيد ثورة الشباب، فكانت حركتها الثورية في ساحات التغيير متعثرة وخطوات سيرها مرتعشة سرعان ما توقفت عند أول محطة للتسوية السياسية..
لقد أخطأ شباب الثورة حينما سلموا زمام ثورتهم لأحزاب المعارضة، وتحولوا هم إلى مجرد جماعات شبابية ميدانية تابعة لها، وبالمقابل أخطأت أحزاب المعارضة عندما حاصرت شبابها الثائر التواق للتغيير بقوالب حزبية وتنظيمية وحرصت على خطف القرار السياسي من أيديهم ولم تساعدهم على بناء جسم سياسي ثوري مستقل عنها وموازي لها ومتكامل معها، ولو أن ذلك حصل لكنا اليوم أمام خارطة سياسية جديدة!
رابعا: عدم التناغم مع الحراك الجنوبي:
انطلق الحراك الشعبي الجنوبي قبل الربيع العربي بأكثر من ثلاث سنوات، ومع انطلاق ثورة التغيير في اليمن أيدتها قيادات كثيرة وقواعد عريضة من الحراك الجنوبي، وتراجعت فعاليات الحراك في أكبر مدن الجنوب لصالح فعاليات ثورة التغيير بشكل ملحوظ، وبدأ الحديث في الجنوب عن إمكانية إعادة صياغة الوحدة على أساس فيدرالي في حال نجاح الثوار في إسقاط النظام في صنعاء، لكن شباب ثورة التغيير لم يكونوا على مستوى كاف من الإدراك لطبيعة الحراك الذي لا تحكمه قيادة سياسية بقدر ما يتحكم بسلوكه مزاج شعبي رافض لثقافة الضم والإلحاق، وهذا هو ماحصل بالفعل حيث بدأت ساحات الحراك بالتمايز عن ساحات التغيير من اليوم الأول لانضمام أركان النظام السابق لثورة الشباب، ثم تصاعد الخلاف بين شباب الحراك وشباب التغيير في معظم ساحات الجنوب، ثم صفي المشهد الثوري في الجنوب نهائيا لصالح الحراك بعد توقيع المبادرة الخليجية التي حولت الثورة إلى أزمة سياسية.
من المستبعد مستقبلا إن تستعيد قوى التغيير شعبيتها مرة أخرى في الجنوب مالم تفك ارتباطها العضوي والسياسي عن قوى النفوذ التقليدية في الشمال، وتحرر نفسها كقوى وطنية شابة من ثقافة الضم والإلحاق، فاستمرار ثورة الشعب في الجنوب جعل النهج السياسي للقوى الجنوبية المعتدلة -بمن فيهم المشاركين في السلطة- يتبلور بصورة اشتراطية تضع ابناء الشمال أمام خيارين: "إما النهوض للتغيير أو القبول بالتشطير"، وهي معادلة الحد الأدنى التي قد يتجاوزها الوقت في حال تحول الجنوب الى ساحة للعنف، فحينئذ لن يبقى أمام اليمنيين سوى الخيار السوري أو العراقي: "التغيير أو الموت"!
خامسا: خطاب ديني غير مواكب للتغيير:
من اليوم الأول للثورة نزلت جماعة الاخوان المسلمين بكافة ثقلها المادي والبشري لدعم الثورة، ثم أعلنت هيئة علماء اليمن تأييدها للثورة، وبدأت جماعات سلفية -كانت تعيش حالة من العزلة السياسية والجمود الفكري- في مراجعة مناهجها في التغيير والإصلاح تحت تأثير صدمة الربيع العربي وضغط قواعدها الشبابية..
رغم هذا الحضور الاسلامي الكبير إلا ان الحركة الاسلامية حصرت خطابها الثوري في قضية اسقاط رأس النظام، ولم يستطع العلماء والدعاة تبني خطاب شرعي تجديدي يدفع بالثورة نحو التغيير الجذري الشامل. وفي اعتقادي ان ذلك يعود الى عدة أسباب، أهمها:
1. ارتباط وتشابك المصالح بين بعض قادة الحركة الاسلامية وقوى النفوذ والفساد القبلية والعسكرية المنشقة عن النظام السابق.
2. الأزمة الفكرية المزمنة التي تعاني منها بعض الهيئات الشرعية والجماعات السلفية التي أثمرت قناعات حدية تجاه قضايا الحرية والمواطنة والدولة المدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأدت إلى اتخاذ مواقف متشددة ضد أهم مطالب الثوار.
3. هاجس الخوف من انفصال الجنوب، وضخامة حجم التضليل الذي مارسه النظام الحاكم والقوى المتنفذة على العلماء والدعاة، وقلة العلم بالواقع الجنوبي وضعف التشخيص الموضوعي للحالة الجنوبية، أدت إلى تبني هيئة علماء اليمن وقادة بعض الجماعات والأحزاب السلفية مواقف متطرفة ضد القضية الجنوبية، بما فيها تحريم الفيدرالية وتنزيل الوحدة اليمنية منزلة الفريضة الشرعية، مما أدى إلى تأزيم الموقف مع الجنوبيين، وإحباط طموح الثوار في بناء دولة اتحادية مدنية حديثة.
4. اختلاف العلماء تبعا للإنقسام السياسي حيث انقسم العلماء إلى جمعية موالية للنظام، وهيئة موالية للمعارضة المنشقة عنه، ورابطة موالية للقوى الإمامية المتمردة على الطرفين، وبذلك تحول العلماء إلى عامل تقوية لقوى الاستبداد التقليدية العسكرية والقبلية والسلالية التي من المفترض ان الثورة قامت لإسقاطهم، مما أدى إلى قيام علماء ودعاة الجنوب بتأسيس هيئة شرعية ناطقة باسم الحراك، واتحاد علماء مستقل عن جمعية وهيئة علماء اليمن. أما ثورة الشباب فقد وجدت نفسها يتيمة عارية تفتقد إلى إطار مرجعي يحمل مشروعها التغييري!
هذه الأسباب وغيرها أدت إلى تعثر الثورة وتحولها إلى أزمة سياسية، ومكنت القوى التقليدية من إعادة تشكيل نفسها، وعادت ثلاثية "السيد والشيخ والفندم" للتحكم بالمشهد السياسي من جديد، وباتت العاصمة صنعاء اليوم على شفا حرب أهلية لن يملك قرار إيقافها أو تحديد وجهتها سواهم..
إن استئناف الثورة في ظل حالة انكسار الإرادة الوطنية والهزيمة النفسية أمام القوى التقليدية يتطلب من شباب التغيير تجاوز التركيبة الحالية للقوى الوطنية.. فاليسار اليمني لم يعد "تقدميا" بعد ان صرنا اليوم نرى أحزابا يسارية ترتمي في أحضان القوى الإمامية "الكهنوتية" التي كانت الثورة ضدها أحد أسباب وجودها السياسي، ولم يعد التيار الليبرالي تحرريا بعد ان تحول بعض ناشطيه الى سماسرة علاقات على أبواب الطغاة الذين من المفترض أن تكون الثورة ضدهم مبررا لوجودهم السياسي، بل أصبح غاية ماتبحث عنه تلك الأحزاب والمنظمات هو الحفاظ على وجودها الكياني وتقديم الخدمات النقابية لأعضائها، وبالتالي بات من المستحيل ان يجد شباب الثورة في أمثال هؤلاء بديلا شعبيا ناجحا لإنقاذ ثورتهم!
أما الحالة الدينية فقد باتت متجههة نحو التطرف والطائفية، وأصبح المشهد الإسلامي في اليمن تهيمن عليه جماعات أثبتت الأحداث انها تعاني من إعاقات فكرية وسياسية مزمنة تمنعها من تجديد وسائل وأدوات التغيير.
لكننا مع ذلك ندرك أن اليمن بلد مسلم محافظ سيظل للعنصر الديني أهميته البالغة في تحريك الجماهير وتوجيه مسار الثورات بل وفي بناء النظام السياسي وإقامة كيان الدولة، ومن هذا المنطلق يقع واجب الوقت على منتسبي الجماعات الاسلامية الأحرار في القيام بثورة تصحيحية جذرية داخل جماعاتهم وأحزابهم بهدف إعادة صياغة المنظومة الفكرية والنهج السياسي للحركة الاسلامية، باتجاه الانتصار لمشروع الدولة المدنية والفصل بين المشروع الاسلامي النهضوي والواقع القبلي المتخلف، وجسر الهوة بين المواطنة والهوية الاسلامية، والربط بين حاكمية الاسلام وأحقية الأمة في امتلاك السلطة، والقضاء على التعارض المتوهم بين المشروع الوطني والمرجعية الاسلامية.
هذا الجهد التصحيحي يمكن ان يحول الحركة الاسلامية إلى قوة تغيير وطنية تلتقي مع القوى الوطنية الأخرى على أرضية مشروع للتغيير الشامل والبناء المشترك، ويومئذ -فقط- يمكن التبشير بقرب انتهاء عهد السيد والشيخ والفندم!
لكن ياترى هل يأتي ذلك اليوم ولايزال على الخارطة دولة اسمها اليمن؟!!