لسنا وحدنا من يحفل تاريخهم بأساطير وخرافات حول الحكم والحاكمين وتقديسهم ، فكثير من الأمم كانت تقدس حكامها وترفعهم إلى مرتبة الألوهية، ولا تزال هناك شعوب تؤله حكامها إلى اليوم وإن كان ذلك في حكم النادر ، قبل سنوات كنت أسمع برنامجا من BBC يتحدث عن تايلند عندما حلت بها أزمة سياسية واقتصادية كبرى، وعندما تحدث المذيع عن الملك هناك، قالت إحدى المتداخلات من تايلند : ( He is not only
a king، he is also a God)، انه ليس مجرد ملك لكنه إله أيضا ..!
وسالت دبلوماسيا يابانيا ذات مرة، هل لا يزال اليابانيون يعتبرون الإمبراطور إلها؟ ورد ضاحكا، وكمن يبدو متهربا : لا لا، منذ 1945 خلاص ، ! ولم أحاول البحث عن مزيد من التفصيل..!
في الصين كانوا يعتبرون الإمبراطور ابن السماء، إلها .، ويحكم الان الصين حزب شيوعي، لا علاقة له بالسما إطلاقا، ويحظر التدين على أعضائه الثمانين مليون، ويستخدم قصر الإمبراطور، الذي لا يزال يحتفظ باسمه القديم ( المدينة المحرمة) متحفا يدر دخلا كبيرا لبلدية بكين عاصمة الصين ، ويعيش اليوم، الأشخاص المنحدرون من سلالة الإباطرة، إبناء السماء، مواطنين عاديين، في جمهورية الصين الشعبية . والصينيون اليوم، لا يمدحون أباطرتهم ولا يذمونهم، لكنهم يتحدثون عما يعدونها غرائب وعجايب، في حياة الأباطرة، قياسا لما عليه الحال في زمننا، ومن ذلك كثرة النساء اللواتي يعشن في خاصة الأمبراطور، وعالم الخصيان الذين يعج بهم البلاط الإمبراطوري، ونجد للصورة أشباه ونظائر في تاريخنا الامبراطوري، ويخرج عن ذلك عصر الخلافة الراشدة، الذي بقي شديد التأثر بسلوك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وممارساته وأخلاقه.
ومن غير شك فقد تأسى بافعال النبي وسلوكه القويم وخلقه العظيم كل من كان قريبا منه، على تفاوت وتنوع، ومن أولئك، علي وفاطمة عليهما السلام وبنيهما، وبالطبع أبوبكر ومعاذ وعمر وبلال وصهيب وسلمان، عليهم السلام وآخرون كثر، لكن المسافة تبقى شاسعة بين المعلم الفذ العملاق، والنجباء من تلاميذه، سواء كانوا من الأقربين أو الأبعدين، ولا يتعلق الأمر هنا، بجينات الوراثة للمعلم أو القائد، وإنما، باستعداد وتحفز وقدرات فردية تشبه الطفرات التي نادرا ما تتكرر أو تتطابق في سلف أو خلف أو قريب، والأهم من كل ذلك ضرورة اقتران تلك القدرات الإستثنائية، بجهد ذاتي نوعي استثنائي، للمعلم الفذ أو القائد الملهم ( بكسر الهاء) أو من في حكمه ومن ذلك الأنبياء التي تلقي السماء عليهم مهاما ثقيلة وتبعات إستثنائية.
تبقى عظمة علي وعلمه وتقواه مؤكدة دون ريب أو جدال، ليس لأنه قريب محمد صلى الله عليه وسلم، لكن لأنه أحد تلامذته النجباء . وكثير من أقرباء النبي ليسوا بمستوى علي ولا بمستوى عمر وهو تلميذ متفوق ونابه آخر، من تلامذة الصادق الأمين، ولعله أعظم رجل دولة في التاريخ، كما قال هارولد إنجرام في كتابه ( اليمن : الأئمة والحكام والثورات).
وسُوى إصطفاء النبي، لم يدَّعَ القران إصطفاء لأحد، أو تفوقا للعرب قوم النبي، أو عشيرته، أو أسرته أو أسلافه، أو أخلافه، ويصعب التوفيق بين الدعاوى والتحيزات العنصرية والسلالية ومقاصد وأصول رسالة سماوية غايتها العدل والمساواة بين بني البشر، وحري بمن يتوهم شيئا من التمييز والإصطفاء العرقي أن تضل دعوته حبيسة داره ولا تتعدى عتبة منزله.
ومع الإحترام الشخصي لمن لا يزال يعتقد بالوصية والولاية، وبعض أصدقائي قد يرون ذلك، يستحيل تصور أن يوصي النبي القايم بالعدل، بحصر الولاية والسيادة في أحد من أقربائه على من عداهم، ولو كان تلميذه وحبيبه علي، فما بالنا في من يرى وجوب امتداد حق الولاية والسيادة عبر العصور والأزمان، يتناقلها الخلف عن السلف إلى قيام الساعة ، لقد أُرسل النبي محمد، ليكون رحمة للعالمين، ولا يجدر بمن تنحصر رسالته في غايات نبيلة مثل الرحمة والمساواة، إلا أن يكون على مسافة واحدة من كل الناس، هذه هي الحقيقة وهي ما نراه ونعتقده بالضبط ..!
لقد تطور الحكم في المفهوم والممارسة عبر العصور، وتخلص تماماً مما كان يحيط به من قداسة وخرافة وأساطير في العصور القديمة ليصبح مجرد خدمة مؤقته للناس وعرضا زائلا، ولا علاقة له بالإصطفاء والتأليه والتقديس، وأصبح الحكام عرضة للنقد والمساءلة والتغيير..وأصبحت مسألة قداسة الحكم والحاكمين من التاريخ، وصار واقع العالم اليوم يؤيد ذلك، بشكل مطلق..وأصبحت المساواة إنجيل الحياة منذ الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وفقا لجوستاف لوبون ...! ونستطيع القول : بل أولى بالمساواة أن تكون قران الحياة ودستورها.
وتاريخيا لم يكن المسلمون بدعا من الأمم، في معتقداتهم المستغربة في زماننا، ولعلهم لم يكونوا أسوأ أو لننقل أغرب، مما كان عليه كثير من الأمم، غير أن المؤسف والمستغرب أكثر، أن هناك من لا يزال موغلا في التمادي، والتماهي مع الماضي ومعتقداته الغريبة المتعسفة، بما يضر ويسئ، من حيث، ربما، يراد الإحسان ..مع افتراض أن الحقيقة أصبحت ساطعة جلية كالشمس في وضح النهار..