أثبتت العقود الأخيرة أن الإعلام سيف ذو حدّين؛ تتم من خلاله وبواسطة خبراء ماهرين صناعة الأعداء لتمزيق وحدة الشعوب ونسيجها الاجتماعي، والتدخُّل بصورة مباشرة وأساسية في قرارات المرء التي ليست بالضّرورة استجابة طبيعية تلقائية لما يحدث من حوله ولكنها غالباً تأتي بناءً على تأويل الجماعة الأقرب إليه فكرياً وأيديولوجياً وسياسياً، وما تحمله - أيضاً - وسائلها الإعلامية ومنابرها المختلفة من رسائل مغلوطة، موجّهة ومشحونة بالتحريض والكراهية وحرف الحقائق واعتسافها.
إن الخطاب الإعلامي وثقافة الصورة وما يتم من تلاعب بها وإجراء معالجات عليها وإعادة منتجتها، يعملان على تهيّج المرء والتدخُّل الفعلي في قراراته وتحديد مواقفه وتعبئته بمفردات ومفاهيم جديدة تأخذ مع الوقت، طابعاً ثابتاً إمّا سلباً أو إيجاباً، والحالة الأولى أكثر شيوعاً طبعاً.
وهكذا إلى درجة تصبحُ فيها هذه الصورة الإعلامية مثلها مثل السّوسة التي تنخر في الأسنان، فالسُّوسة تتغذّى على البكتيريا في الفمّ، والصورة على الفروق والتباينات في المجتمع مهما كانت بسيطة وهامشية؛ فإنّها تُجرى عليها عملية تكبير، بمكبّرات مخبرية حديثة كتلك التي تُكبّر القملة حتّى تصير بحجم الفيل لغاية واحدة هي «تفجير هذا المجتمع»..!!.
والإعلام سواءٌ كان الداخلي أم الخارجي يهيّئ المناخات لتحقيق تلك الغاية وتسويق الشعارات التي تبذر التمييز المناطقي والديني والطائفي، فنسبة كبيرة من القائمين عليه - مع كامل احترامنا للمخلصين للمهنة - يحترفون إيجاد واكتشاف الاختلافات والاشتغال عليها وعلى التباينات الشكلية أو حتّى الجوهرية التي تضمن لهم زرع الفتنة وتخدير أكبر قدر ممكن من المجمتع الذي لا يحسّ أفراده بأنفسهم إلا وقد تشكّل في أعماقهم النفسية والاجتماعية والفكرية والثقافية وعي جديد وفقاً لهذا الخطاب الذي حقّقوا له أهدافه بكل يُسر وسهولة من حيث لا يشعرون.
وكي لا نصل إلى هذه الوضعية بكل ما تنطوي عليه من بؤس ودمار، وكي لا نصل أيضاً إلى مرحلة الشعور الصادم باليأس وصعوبة استعادة مفقوداتنا واستحالة تحقيق ولو جزء بسيط من أحلامنا؛ علينا بمختلف مواقعنا وانتماءاتنا السياسية والأيديولوجية أن نتعامل مع الخطاب الإعلامي وجميع الاختلالات القائمة بوعي وذكاء يجعلانا نقرأ ما وراء السطور الرسمية ونستنتج مآلات الانجراف مع هذه العاصفة التي تريد أن تقتلعنا من جذورنا وتجبرنا على المساهمة في التجريف الحاصل بحق الوطن والقيم والثوابت والمعاني السامية، وبعبارة أخرى علينا أن نتعامل مع هذه التحوّلات والخطاب الإعلامي الذي يعمل معظمه على تفخيخ المفاهيم، كما يجب وليس كما يحبُّ كل طرف من الأطراف.
مع العِلم أن أهم العوامل في كبح جماح الحرب الإعلامية والحدّ من نتائجها هي الحوارات الجادة والحلول الوسطية التي تقود إلى توافقات سياسية تُنتج شراكة وطنية وليس شراهة ومغالبة واستحواذ من قِبل أي طرفٍ كان، وفي هذه الجزئية تحديداً في ظنّي أنّه لابدّ علينا إدراك القاعدة التي تؤكد أنه لا يمكن لأي شعب من شعوب الأرض تحقيق استقرار، أو نهوض دون أن تكون قواه السياسية وشرائحه الاجتماعية متّفقة على خطوط عامة، ومتوافقة على خارطة طريق يلتزم بها الجميع.
أعودُ وأكرّر، إذا ما أردنا نقل المجتمع من التقاليد والصراعات العبثية، العدمية إلى المعاصرة؛ لِزاماً علينا ترشيد الخطاب الإعلامي وتوضيح أبعاده وكل الأفكار والرسائل الهدّامة التي يتضمنها، إلى جانب تبنّي آلية مختلفة ومناسبة في الحوار، ومعرفة الطُّرق التي تقود إلى كسب ثقة الناس، والتي تُبنى غالباً على ما تقدّمه القوى السياسية من برامج ملموسة وقابلة للتنفيذ، إضافة إلى شرعية الإنجازات وليس على بلاغة الخطابات.
المجتمع متعطّش لتقديم قيم مضافة وإشباع حاجاته الأساسية ومحاربة الفساد ورفع معدّلات الدخل القومي وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذه كلّها لن تأتي دون توافق وميثاق شرف إعلامي وتشكيل حكومة كفاءات ومنحها كامل الصلاحيات، دون أي تدخُّلات أو القيام بحروب إعلامية ونفسية ضدها تؤثّر سلباً على أدائها.
وأمر آخر في هذا السياق، وهو تخلّينا غير المشروط عن التراكمات والثأرات، مع ضرورة العودة إلى خارطة كفاح مناضلي الثورة اليمنية «سبتمبر وأكتوبر والثلاثين من نوفمبر وغيرها» ودون أي جحود أو تعالٍِ.
عبارة أخيرة: هناك من يعتقد أنّ أداءه عبارة عن طفّاية حريق، لكنّه لم يدرك أنه طفّاية حريق فقدت عناصر الإطفاء وعُبّئت بعناصر الاحتراق التي تشتعل في كل اتّجاه..!!.