الوطن المقدّس، الصاخب، الكامن في دواخل أنفسنا، هو ما يجعلنا نبكي فرحاً مع عزف السلام الوطني في احتفاليّة ما تُقام هنا أو هناك أو قبل إحدى مباريات كرة القدم التي يكون طرفها منتخبنا الوطني، وهذا الوطن الكامن في أعماقنا - أيضاً - هو الذي جعل عشرات الآلاف من اليمنيين يتركون مصادر أرزاقهم ويتقاطرون إلى «الرياض» ومدرّجات ومحيط ملعب ستاد الملك فهد من مختلف مناطق المملكة ودول الخليج.
وهذا الوطن هو الذي جعل اليمنيين طوال الأيام الماضية في الداخل والخارج يتوحّدون خلف شعار واحد هو عَلم الوطن، وزيّ واحد، هو زيّ المنتخب، وهدف واحد هو تشريف اليمن ورفع اسمه عالياً فوق هام السُّحب.
وفي صنعاء وعدن وتعز والحديدة وشبوة وإب وذمار وصعدة والمهرة وأبين وسقطرى وحجّة وعمران وحضرموت والمحويت ومأرب ولحج، نسي اليمنيون ـ كبيرهم وصغيرهم ـ خيبات السياسة والحديث عن الصراعات الدائرة في أكثر من مكان، وأنواع الأسلحة المستخدمة فيها التي كانوا قد صاروا خبراء في معرفتها ومعرفة قوتها ومميزاتها ومداها وتقبُّل التعايش مع أصواتها وترديد الأناشيد التي تُمجّدها.
ونسي اليمنيون جراحاتهم ومتاعبهم وهموم توفير لقمة العيش وإيجارات البيوت والحوانيت والبسطات ورسوم فواتير الكهرباء المقطوعة والماء الناشف؛ وأخذوا يفوّضون أناس لـ«فَرق» واقتراض قيمة المولدات الكهربائية والبنزين والزيوت، وكل المستلزمات التي تُمكّنهم من مشاهدة مباريات منتخبنا الوطني ومتابعة كُلّ البرامج والجلسات التحليلية التي تسبقها وتعقبها، ومعرفة نقاط قوة وضعف فريقنا والفرق التي سنواجهها؛ لتتبرمج عقولهم وقلوبهم وهمومهم نحو المُنتخب ونِزالاته وكتابة الشعارات والزّوامل التي يشاركون بها أهازيج وأناشيد رفاقهم في مدرّجات ملعب الملك فهد.
ونسي اليمنيون - أيضاً - أسماء قائمة الاحتياجات الأساسية التي تدوّخهم دائماً كحليب الأطفال والدواء والملابس والأقلام والدفاتر والمياه الأقل تلوثاً، وحتّى أسماء بعض المؤجّرين و«رازم البقّالين والخضريين» وروتين ترحيل بعض القضاة للقضايا في المحاكم.
وليس ذلك فحسب، بل إنهم نسوا كنية القادة الميدانيين للصراعات وأماكن الاقتتال، ليحفظوا ويردّدوا فقط أسماء “علاء الصاصي ووليد الحبيشي، والخياط، ومحمد إبراهيم عياش وياسر الجبر ومحمد بقشان، ومدير عبدربه وعبدالواسع المطري وسالم عوض، وميروسلاف سكوب، وأمين السنيني، وقنوات «سبأ» و«الكأس» و«السعودية الرياضية» و«معين» وغيرها”.
ماذا نسمّي كل هذا..؟! أنا أعجز عن تسميته أو توصيفه في عبارة واحدة، أو حتى مقالة أو مقالتين، لكن كتوطئة لذلك، أعتقد أنه الحبّ والانتماء الحقيقي والصادق لشيء يتساوق مع الروح ويتدفّق في أركان الأوردة، اسمه «الوطن».
إذن.. هل ممكن أن نستفيد من هذا، ممّا قدّمه لنا المنتخب الوطني والالتفاف الأسطوري وغير المسبوق لليمنيين حوله..؟! إنها دروس مجّانية وفي غاية الأهمية، ودعوة صريحة لنا كي نعود إلى جوهرنا الداخلي، ونُعزّز قيم المحبة وابتكار وسائل وسلالم الخروج من كهوف الماضي وأنفاق المصالح.
لقد قدّم لنا هذا الحدث الاستثنائي - أيضاً - دعوة إلى عدم الخروج عن العقل، أو التخلّي عن حقّنا وقدراتنا في التفكير وتنويع الخيارات، إلى جانب عدم الاستسلام إلى العنف والمفاهيم والعادات الجامدة غير القابلة للتطوّر، الخادمة في مجملها التخلف والصراع والجهل وتكريس المعاني الظاهرة للأشياء.
لو سمحتم، أحيوا رحلة العودة إلى منطق الأشياء السليمة، وأوقفوا هذا النفي والمصادرة غير المبرّرين للعقل الذي يُعدُّ المخزن الآمن لحفظ التجارب وتفسير الظواهر واستيعاب العِبر وتمكين الإنسان من الربط بين الأسباب والنتائج، والتفريق بين الأشياء الظاهرة والنادرة والمتحولة والثابتة والماضي والحاضر.
«خليجي 22» ودون أي توقُّع؛ أعطانا درساً قيماً، مفاده أننا بالعقل والإيمان بهذا الوطن وحبّه، سندافع عن وجودنا ووحدتنا وتضامننا، وسنؤمّن حياتنا ونكتشف حركة الزمن ورؤية الأشياء والحكم عليها من زاوية علمية، واعية، عقلية، زاوية الاكتمال التي تسمح لنا من أن نتأكّد أن التاريخ والحضارة صناعة إنسانية بامتياز، وعملية تقدّم وتواصل إلى الأمام وليس العكس. إن مشاعر الوحدة الوطنية العميقة ونسيان الجراحات والأحزان التي عشناها بكل صدق وتلقائية لمدّة أسبوع، أو أكثر بفضل طاقة وسحر شباب التشيكي «سكوب» دعوة لنا إلى التفكير في كيفية شحنها من جديد بطاقة لمدّة قرن مثلاً، مع قابلية الشحن من جديد - أيضاً - لقرون قادمة وهكذا..!!.