من أين نبدأ..؟!

2014/11/29 الساعة 11:31 مساءً

دائماً ما تتجلّى لدى الإنسان رغبة التغيير وتجديد الحياة وركوب المغامرات بكل ما فيها من أخطاء وأخطار وعواقب؛ لأن البشر بطبعهم لديهم نزعة شديدة لاكتشاف المجهول والتّجديد واختراق التحدّيات والآفاق وحتّى إذكاء نار الخلافات والدّخول في الصراعات، وربّما هذا ما يؤكّده المفكّرون، وفي مقدّمتهم المفكّر العربي الكبير محمود أمين العالم الذي يرى أن الإنسان عبارة عن تاريخ مضاف إلى الطبيعة باعتباره سيرورة من الوعي والإرادات والمصالح والثقافات الذاتية والجماعية المتصارعة والمتفاعلة والمتلاحقة مع ضرورات الطبيعة الإنسانية والطبيعة الخارجية المادية. 
وفي ضوء ذلك يقفز السؤال الأكثر إلحاحاً: نحن كيمنيين؛ ماذا نُريد، وما هي طبيعة التفاعلات والصراعات التي نديرها ونغرق فيها من أخمص القدمين وحتّى الرأس، وإلى متى ستستمرّ هذه الصراعات والتفاعلات التي غالباً ما تقود إلى نتائج أكثر سلبية وجنائزية..؟!. 
لعلّ الإجابة عن مثل هكذا تساؤلات تُجيب عنها القوى السياسية والقوى الحيّة والمفكّرون الطليعيون، لكن بشروط الإخلاص من قبل القوى السياسية وإتاحة الفرصة للمفكّرين لتقديم الإجابات والحلول، إضافة إلى إمكانية تنامي أشكال الوعي في المجتمع، وبشكل إيجابي فعندها سنتمكّن حتماً من الإجابة عنها وعن التساؤلات التي تلحُّ - أيضاً - من قبيل: أين تعثّرنا خلال السنوات الثلاث الماضية، وما هي الأسباب الجوهرية التي تقفُ خلف عثراتنا، وهل نحن مستعدّون للاعتراف بها وإعادة العربة خلف الحِصان..؟!. 
في الحقيقة نحن نعيش ظروفاً تغني عن الشرح، نعيش حالة حرب وحالة سلام، واقعاً وخيالاً، حكومة وميليشيات، تعدُّد الخيارات وضيقها. 
وفي ظنّي أن هذه الدّوامة والمتناقضات والمشاكل التي نتوه في دوّاماتها منذ سنوات لن تتغير حتّى يقتنع الجميع أنه لا مجال ولا خيار أمامنا غير الشراكة وتقبُّل الآخر والاعتراف به وبالأخطاء الفادحة التي نقع فيها، على مستوى الطرف الواحد والأطراف مجتمعة، والفرد والجماعة، وإدراك أن هناك مستجدّات سلبية تطرأ على حياتنا وهناك بؤر صراع جديدة تظهر في أكثر من مكان ومنطقة عنوانها وخلفياتها وأسبابها تقريباً معروفة ومجهولة، واضحة وغامضة، قريبة وبعيدة، جديدة وقديمة، ممكنة وغير ممكنة. 
وهذا يعني استطراداً وجوب وضرورة مراجعة حساباتنا وسلوكياتنا وقراراتنا وأدواتنا المعرفية والسياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها، مأرب على صفيح ساخن والبيضاء وإب على صفيح ساخن والجنوب يغلي وحتى منطقة الحصبة استعادت قبل أيام قليلة بريقها الناري وتصدّرت المشهد تماماً وجعلتنا لليلة كاملة نسترجع فصلاً وليلة من فصول وليالي العام 2011م ونوجّه راداراتنا ومسامعنا واهتماماتنا نحوها. 
أقول وحتى نتجاوز، أو على الأقل نحدّ كثيراً من هذا النزيف الذي نعانيه والاشتباكات النفسية والاجتماعية والسياسية والعسكرية التي نخوضها كل يوم وكل لحظة وثانية من حياتنا، علينا أن نستوعب واقعنا ومحيطنا جيداً ونجلس على طاولة الحوار ونحن متجرّدين من كل التراكمات والحساسيات، ننسى أو نتناسى كحدّ أدنى، التأثيرات والثأرات، المصالح الذاتية والحزبية، المذاهب والتوصيفات المناطقية ونتذكّر، فقط الهوية الجمعية لنا كشعب والمصالح العليا لنا كوطن واحد، ونتذكّر بخشوع وإيمان - أيضاً – أحزان هذا المجتمع الصامتة والمعلنة، وأحوال شبابه وأطفاله وفقرائه الذين فقدوا أحلامهم وتبعثروا وتشرّدوا وتدنّست كرامتهم كثيراً، ونحاول أن ننسيهم، أو قُل نفرمت ذاكرتهم وأوضاعهم التي توزّعتها المصائب والمصاعب والمنافي والعذابات. 
علينا أن نبدأ بتحرير القضاء من التدخُّلات ومن كل فيروسات الفساد والفاسدين ومن القوانين المشوّهة والمشبوهة، المفصّلة بمقاييس معيّنة لخدمة مراكز النفوذ والفساد والجهل وأعداء المدنية والعدالة. 
علينا أن نبدأ بخطوات عملية في حماية المنشآت والمصالح الحيوية العامة والمهمّة، وأولها خطوط نقل الكهرباء وأنابيب النفط، ورد الاعتبار لمؤسّستيّ الجيش والأمن وكل مؤسسات الدولة وأركانها حتّى تستعيد دورها ومكانتها وتقوم بمسؤولياتها المناطة بها، كي تُسهمُ بشكلٍ فعّال في تغيير الآليات العتيقة والمُتّبعة، وإيجاد آليات وصيغ بديلة تُمكّنا من بناء مداميك جديدة في جدارنا الوطني المائل بشدّة. 
ولا ننس، قبل اتخاذ أية خطوات من أن نُدرك يقيناً أنه حتّى في حال توفّر المال والتعويضات للناس هنا وهناك، فإن ذلك لوحده لن يعالج الندوب التي حُفرت عميقاً في القلوب والنفوس، فأي تعويضات لن تعوّض ما فقدوه من أحلام تلاشت وقيم تساقطت ومشاعر تحطّمت ودماء سُفِكت وأجساد تمزّقت وأعضاء بُتِرت وإنسانية أهينت وكرامة دُنِّست ومواطنة سُلِبت وحقوق نُهبت. 
إن المعالجات والتعويضات المادية - إن حصلت - لهذه الأشياء؛ لا معنى لها إذا لم يترافق معها تغيير المسار العام والخطاب السياسي والسلوك والتحلّي بقيم التعامل السوية الوطنية، الإنسانية التي يجب أن تُتّبع مع جميع المكوّنات والمناطق، دون أي انتقاء، إضافة إلى إحياء قيم المعرفة والمساواة بين الناس ومنح الجميع فرص التعليم والابتعاث والتطبيب والالتحاق بالكلّيات العسكرية والعصرية والمجتمعية، وكذا حماية القانون ومحاسبة المقصّرين وإيجاد مشروع وطني ينخرط فيه الجميع وليس أصحاب الذوات والمصالح الذين عهدهم الناس يتشدّقون بالوطنية، ولو استدعى ذلك تشجيع ودعم تبلور وظهور تيارات سياسية أكثر جدّية وإحساساً بالعصر وضرورات وطموحات وحاجيات الناس ومقوّمات التحوّل؛ إلى جانب البرهنة لهذه الأمة بوجود تقدير حقيقي وإضافي للمبدعين والمثقّفين والحقوقيين والمفكرين والمناضلين في سبيل النهوض والتقدم المنشود. 
بمناسبة ذكرى الثلاثين من نوفمبر المجيد «عيد إجلاء آخر جندي للمستعمر البريطاني» كل عام وأنتم والوطن بألف خير وعافية.