�نا عدن | مقالات
هشام المسوري|
نجا طارق صالح من مصير عمه. لكنه خرج معزولًا، مذعورًا، بلا هوية سياسية واضحة.
كان، كما يبدو، ناجيًا بلا قضية، يتحدث بلغة لا تنتمي إلى زمن المقاومة وحرب التحرير.
انتقاله إلى المعسكر الآخر لم يكن فعلًا سياسيًا حرًا، بل هروبًا من فاجعة.
في ظهوره الأول بمحافظة شبوة، لم يبدُ كقائد يدعو للمقاومة، بل كمصاب بجرح شخصي يبحث عن خلاص فردي.
كمنكسر يبحث عن ملجأ.
لم يكن يحمل خطابًا مغايراً، بل صدى لما فعله به الحوثيون. بدا أقرب إلى شخص خرج من مجزرة شخصية ولم يدخل بعدُ في قضية وطنية عامة. كانت الفجيعة تسبق الموقف. لا نية للثأر، لا مشروع للمستقبل، لا فكرة عن المعركة القادمة.
في أول ظهور بعد نجاته من الحوثيين، في يناير 2018 عبر فيديو مصور بمحافظة شبوة دعا طارق صالح إلى الحوار وطالب السعودية بـ"إنهاء الحرب ورفع الحصار عن الشعب اليمني". قال إنه يمد يده للأشقاء في المملكة العربية السعودية لإنهاء الحرب!
ثم أعيد دمجه لاحقاً، لا عبر القتال، بل عبر رغبة القوى الإقليمية في توزانات يمكن التحكم بها. حُدّدت له الجغرافيا الجاهزة، ورُسم له الدور. وبدلاً من أن يكون خصمًا للحوثيين، صار جزءًا من مسرح يتيح لهم البقاء بفضل الجمود على الجهة المقابلة. سُمح له بالكلام، لا بالفعل. بالحضور، لا بالمبادرة.
أدائه ظلّ مأزوماً ولا يعكس أي إرادة لتحرير البلاد من الإمامة. بل يبدو كمن يُفاوض على بقعة من الأرض المحررة. مشغول بإظهار نفسه كعسكري منضبط، لا كقائد لحرب تحرير. لم يخض المعارك، بل يمثّلها. لم يُعرف عنه خوض معركة فعلية واحدة، بل كان عنوانه الأبرز هو الانسحاب: من الحديدة إلى الخوخة. صمتٌ بارد إزاء المعركة المصيرية، وضجيج دعائي في مواجهة حلفاء يفترض أنهم على الضفة ذاتها.
حضوره العسكري استعراضًا أكثر منه فعلاً. لم يكن ينقصه الزي الرسمي أو الانضباط الشكلي، بل الإرادة والرؤية والسياسة. العدو الذي نجا منه لم يعد عدوه الأول، بل صار غائبًا عن جهازه الإعلامي وأدائه السياسي، وكأن الحوثيين أصبحوا قدرًا لا يُرد.
انتقل من هامش الحوثي إلى قلب "الشرعية"، يعيد إنتاج العبء ذاته. لكنه عبء لا يتمثل في الحجم أو النفوذ، بل في نزع المعنى عن الفعل السياسي والعسكري. يبدو متورطًا أكثر في صراعات السلطة على السلطة، في المزايدة على أشلاء الشرعية، لا في إعادة إنتاج مشروع تحرير وطني.
لا يمتلك قرار خوض معركة التحرير التي يتحدث عنها، ولا أحد يمكنه تحميل طارق صالح مسؤولية الجمود العسكري. هذه مسألة تعود إلى عوامل وأسباب عديدة: ذاتية تتعلق بالمكونات التي تتألف منها الشرعية، وضعف إرادة القتال لديها، وغياب الانسجام فيما بينها، وسوء أدائها وفشلها على مختلف مستويات إدارة الخدمات العامة؛ وعوامل موضوعية تتصل بدول التحالف وحساباتها، وتبعات الصراع بين السعودية والإمارات وتأثيره المدمّر على اليمن ومسار معركتنا مع الإمامة الحوثية.
لكن هذا لا يتيح لطارق صالح التعامل مع بقاء الحوثي كمسلّمة، تستلزم عدم الاهتمام بأي شكل من أشكال الإعداد والاستعداد، أو مراكمة القوة والتعبئة العامة لكسر هذه الحلقة، وبناء الجاهزية التي تتيح القدرة على التحرك وخوض الحرب في الظرف الملائم، والاستفادة من أي فرص قد تأتي بها متغيرات أو ظروف محلية أو خارجية.
في الواقع، لم يتخذ طارق سياسة أو يضع خططًا فعلية تنظر إلى الحوثيين كتهديد حاسم يتطلب تركيز كل القوام والطاقة والجهد لهزيمته أو حتى لإضعافه. يبدو طارق مكتفيًا بما لديه من الأرض، ومنجذبًا إلى الصراعات داخل معسكر المقاومة والشرعية، ومكرّسًا جهازه السياسي والإعلامي للمزاحمة داخل السلطة، ومحاكاة الحكومة الشرعية في أسوأ ما فيها.
ما يفعله جهازه الإعلامي تجاه تعز، تحديدًا، يتجاوز مجرد المكايدة السياسية. إنه إسهام مباشر في تآكل القضية التي كان يُفترض أن يقف في صفها. تعز، المدينة التي خانها وشن الحرب عليها قبل أن ينتقل إليها مضطراً، ومع ذلك امتصت رغبة الانتقام العادل منه ولم تَخُنه.
يرفض دمج مديريات ساحل تعز ضمن سلطة المحافظة العسكرية والأمنية والمدنية، ويقترب أكثر من أصحاب التوجهات المُولعة بتوظيف كل حدث، مهما بلغت تفاهته، واستثماره سياسيًا على نحو يدعم مقولة فشل خيار المقاومة، ويغذي المقولات القروية عن عدم جدارة "أصحاب تعز"، وأنهم "ليسوا رجال دولة"، ويُكرّس قناعات من النوع الذي يقود إلى احتقار الذات، مثل الحديث عن أن الحل في تعز يكمن في تولي قيادة عسكرية ومدنية من خارجها. أي منه.
آلية الدعم الهزيلة في الجوانب الإنسانية لا تخلو من البهلوانية، ومحاولة استثمارها باتجاه يرسّخ فشل الجميع في تعز، باستثناء طارق صالح. حتى لو كانت المساعدة تتعلق بمريض وتُقدَّم عبر "الخلية الإنسانية"، فلا بد أن ترافقها حملة إعلامية، ليس فقط لترويج وتسويق تلك المساعدة البسيطة، بل لتأكيد الصورة الدعائية: العميد يحضر حيث تغيب قيادة تعز.
ما يجري لا يعكس فقط فشلًا في تقديم مزيدا من خيارات التحرير، بل مشاركة نشطة في التمكين للنكوص. لا يقاتل الحوثيين، لكنه يسهم في تسويق سردياتهم: أن المقاومة فاشلة، وأن "أبناء تعز" ليسوا رجال دولة، وأن علينا استيراد قيادة لها، ربما من الساحل.
في النهاية، طارق صالح لم يغادر منطق كونه أداة في يد أحد.
لم يُنتج خطابًا ولا مشروعًا ولا رؤية. لم يُجرِ قطيعة مع إرث عمه، ولم يُبنِ سردية تخصه. هو اليوم عبء على شرعية لا تملك مبادرة فعلية، كما كان بالأمس عبئًا على جماعة لا تطيق وجود فاعل مستقل داخل منظومتها المُغلقة.