�نا عدن | خاص
عبدالعزيز الحمزة
وكيل محافظة وكاتب سياسي|
قراءة في واقعة المكلا:
في مشهد يختصر أزمة الدولة اليمنية في المناطق المحررة، تعرّضت لجنة برلمانية وصلت إلى مدينة المكلا – مكلفة بالإشراف على الموارد المالية للدولة – لتضييق وعرقلة حالت دون تمكينها من أداء مهامها الرقابية، وذلك بعد أن قامت عناصر محلية تتبع جهات نافذة بمحاصرة مقر إقامة اللجنة، ووجّهت تهديدات صريحة للفندق لإخراج اللجنة، في واقعة أثارت كثيرًا من علامات الاستفهام حول مستقبل الرقابة البرلمانية، وحدود سلطة الدولة في بعض المحافظات.
ما جرى ليس مجرّد حادثة عابرة، بل تجلٍ خطير لاختلال العلاقة بين مؤسسات الدولة المركزية وبعض القوى الفاعلة محليًا، والتي – رغم تموضعها في إطار الشرعية – لا تزال تمارس سلوكًا ميدانيًا يُعيق جهود الإصلاح، ويُعطّل أدوات الرقابة، ويفرغ القانون من مضامينه الرقابية.
الرقابة البرلمانية، اصبحت مطلب حتمي!
يمنح الدستور اليمني لمجلس النواب صلاحيات رقابية شاملة، تشمل متابعة الإيرادات السيادية (الجمارك، الضرائب، النفط، والموارد العامة المركزية والمشتركة والمحلية)، وضمان توريدها إلى البنك المركزي، وفقًا لما يخدم الصالح العام. وكل محاولة لمنع هذه الرقابة، سواء عبر التجاهل أو الضغط أو التهديد، هي إشارة إلى وجود مساحات ظل تُدار فيها الموارد خارج مظلة القانون، وتُوزع في قنوات لا تخضع لمؤسسات الدولة.
والأهم أن الجهات التي تعارض الرقابة، وتُعرقل عمل اللجان البرلمانية، إنما تفعل ذلك لحماية شبكات فساد قائمة، تحقق منها مكاسبها الخاصة، وترى في أي جهد رقابي تهديدًا لمصالحها. في المقابل، فإن المحافظات التي رحّبت بعمل اللجان البرلمانية – كما حدث في محافظة مأرب – قدّمت نموذجًا إيجابيًا يعكس إدراكًا مؤسسيًا عميقًا بأهمية الشفافية، وثقة في الأداء المالي، ورغبة صادقة في أن تكون الموارد في خدمة المواطن والدولة، لا الأفراد والمصالح الخاصة.
العملة تنهار... والمرتبات تتأخر... والسبب؟
لا يمكن قراءة هذا المشهد بعيدًا عن الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد. فقدان العملة الوطنية لقيمتها، وتأخر صرف المرتبات، وعجز الحكومة عن ضبط الأسواق، كلها مظاهر مرتبطة مباشرة بضعف الإيرادات وتفشي التجنيب المالي، وتحويل المال العام إلى "جزر مالية" مغلقة تدار خارج إطار الدولة.
فكل ريال لا يُورّد إلى البنك المركزي هو انتقاص من قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها. وكل منفذ يُدار بلا رقابة هو بوابة لفوضى اقتصادية تعصف بحياة الناس. وهنا تصبح الرقابة البرلمانية، ومتابعة أداء الجهات الإيرادية، ضرورة وطنية، لا يمكن تأجيلها أو الالتفاف عليها.
ما وقع في حضرموت يستدعي مراجعة جادة:
رئاسة مجلس النواب مطالبة باتخاذ موقف واضح يُعيد الاعتبار لدور المؤسسة التشريعية، ويعمل على عقد جلسات مجلس النواب بشكل منتظم، ويُصوّب مسار اللجان الرقابية ضمن خطة شاملة تبدأ من الوزارات والمؤسسات المركزية، وتنتهي بالمحافظات.
الحكومة ينبغي أن تُفعّل أدواتها التنفيذية لمراجعة توريد الموارد العامة، وتضع حدًا لظاهرة التجنيب، وتعزز التنسيق مع السلطات المحلية بما يضمن حماية لجان البرلمان.
مجلس القيادة الرئاسي مطالب بتوفير الغطاء السياسي والأمني اللازم لتمكين مؤسسات الدولة من العمل دون عراقيل، وضمان احترام الصلاحيات الدستورية للبرلمان.
لا دولة بلا رقابة، ولا إصلاح بلا مواجهة للخلل
في لحظة وطنية مفصلية، يجب أن نتذكر أن بناء الدولة يبدأ من احترام مؤسساتها، وتفعيل أدواتها، وفي طليعتها البرلمان، والجهاز المركزي للمحاسبات.
فما نعيشه اليوم من أزمات اقتصادية، وفوضى مالية، وانعدام للخدمات، هو نتيجة مباشرة لتآكل الرقابة وتفكك البنية السيادية للدولة.
استعادة هيبة البرلمان أصبح ضرورة لإعادة التوازن بين السلطات، وإنهاء حالة العبث التي أتاحت للفساد أن ينهش موارد الدولة، فيما المواطن يدفع الثمن كل يوم من أمنه، ورغيفه، وقوته، وكرامته.