ذاكرة الجنوب المثقوبة

2017/10/23 الساعة 12:51 صباحاً

 

الإنسان بطبيعته يحن للماضي لأنه خالا من الأشوك ؛ فأقسى المراحل التي عاشها ، وأصعب الظروف التي واجهها إذا تذكرها في نفسه أو ذكرها لغيره تكلم عنها بحنين وشوق إلى تلك الأيام الخوالي رغم ماتفوح به كلماته من بؤس ومعاناة .
لأن الذكريات هي الشيئ الوحيد الذي تتركه السنون بعد أن تأخذ معها كل شيئ ، فيحولها الإنسان وكأنها قطعة أثرية لآلة بدائية من أدوات الزراعة أو الحرب تستمد قيمتها من ذاتها الزمنية وليس من ذاتها المادية ، سواء كان على المستوى الشخصي للفرد ، أو على المستوى العام بالنسبة للدول والشعوب كالحديث عن دولة الجنوب السابقة تماما ، والحنين إلى تلك الحقبة بأحداثها و شخوصها ؛ فعندما يتحدث من عاش تلك الفترة إلى الجيل الذي لم يعشها تراه قبل البدء بالحديث عنها يأخذ نفسا عميقا ، ويتصنع الحسرة على وجهه ، ويحاول البكاء أحيانا قبل أن ينطلق في الحديث عن النظام القائم حينها بشقية السياسي والاقتصادي .
فيبدأ الحديث عن الحس الوطني الذي كان سائدا وما انتجه هذا الحس من ادوار نضالية على مستوى الفرد والمجتمع في مختلف المراحل ، ثم ينطلق بعد ذلك بذكر المراحل المتعاقبة للحكم فيتحدث عنها مرحلة مرحلة ، فيقول لك : استلم قحطان السلطة وكان يريد أن ينحا بالبلاد منحاً غير الذي فرضه اﻻنقلابيون بعده ؛ ففوتوا على الشعب فرصة نعض عليها أصابع الندم إلى اليوم .

ثم يأخذ نفسا أعمق من سابقه ويسكت لحظة؛ وتتغير قسمات وجهه التي ارتسم عليها الحزن التي لوﻻ تلهفك لما سيقوله ﻻسكته ؛ شفقةً عليه مما أصابه من حزنٍ وحسرةٍ ، فيسترسل في الحديث مرة ثانية عن حقبة سياسية مهمة من تاريخ الجنوب ، وهي حقبة الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) فيبدأ بالحديث عن الحماس الوطني الذي كان سائداً في فترة حكمة ؛ لدرجة أن الموظفين خرجوا في مظاهرات عارمة مطالبين الدولة بتخفيض الرواتب، ويسمعك هتافات الجماهير وهي تردد شعار تخفيض الراتب واجب ، تخفيض الراتب واجب ، فتقاطعه وهل كانت الدولة مسرفة في العطاء حتى يخرج الناس زرافاتاً ووحداناً مطالبين إياها بالتخفيض ؟؟؟ فيرد عليك بسرعة ﻻﻻ كانت المرتبات زهيدة جدا ( 250شلن )، فتسأله إذا ماذا تخفض ؟ ﻻيلتفت إلى سؤالك و يسترسل في الحديث عن المظاهر النضالية عند الجنس الأخر ، وخروج النساء في مظاهرات تنادي بحرية المرأة واﻻنفتاح وهنَ يرددنْ شعار ( يامرة يامرة حرقي شيذرك واذكري سالمين الذي حررك ) فتقاطعه يبدو أن النساء في تلك الفترة تأثرن بكتابات قاسم أمين ، وماقامت به صفية زغلول في مصر ، فيسكتك ﻻﻻﻻ أميات أميات من هو ذا قاسم أمين حقك ، و وصاحبتك صفية زغلول ؟؟
فيعود للحديث عن فترة حكم سالمين التي كانت طويلة بالنسبة لمن قبله ومن جاء بعده ؛ عشر سنوات من 69 إلى 79م ؛ فيحدثك عن الاغتيالات السياسية ، واﻻختطافات التي كان يقوم بها زوار الفجر للخصوم السياسيين ، وتصفيتهم خارج القانون ،وكثيرا ما تسمع هذا التوصيف بعد ذكر كل ضحية من ضحايا التصفيات ( كان موظفا بسيطا، أو فلاحا فقيرا ، أو راعيا للغنم ) فتبادره بالسؤال إذا لماذا قتله ؟ فيجيب بسرعة : لم يكن يعلم ، لم يكن يعلم ، كانوا يمارسون تصفية الحسابات الشخصية باسم السلطة ، ثم يسترسل في هذا الموضوع بذكر حملات الاعتقالات والتعذيب في المعتقلات التي قل من نجا منها ، ثم ينتقل للحديث عن الجانب الاقتصادي و النعيم الذي عاشه الشعب في تلك الفترة ، التي كان العدل سائداً فيها حتى أن من كثرة دوران كلمة (العدل) على لسانه يُخيَل إليك أن ربيعا كان ثالث العمرين وﻻيختلف عنهما سوى في إرتدائيه البدلة الكاكي فقط !
فتسمع تفاصيل التفاصيل عن رخص أسعار المواد الغذائية ؛ بل وحتى تحديد الكميات التي كانت تعطى للمواطن على سبيل المثال كمية السكر رطلين لكل فرد من أفراد الأسرة ، مستعرضا الطوابير التي كانت تقف فيها الناس لإستلام مادة السكر وبقية المواد ، فحتى الأسماك والخضروات والفواكة تذهب للسوق المركزي وتقف في الطابور لشرائها، ودائما مايكرر عبارة ( كان ياولدي نظام وليس كالآن فوضة) .
ثم يروي لك كيف تأمر أصحاب الخط الماركسي السوفيتي عليه للقضاء على التجربة الصينية التي كان سالمين يود تطبيقها لوﻻ التأمر عليه ، فيتمتم بكلمات فيها من الشتم واللعن للمتأمرين ، ثم يسترسل في حديثه عن الحقبة اللاحقة فيمر على الفترة من 79إلى 81 بسرعة للينتقل للفترة اللاحقة ، والغريب أن المتأمرين الذين تمتم بكلمات الشتم واللعن بحقهم لما فعلوه بسالمين هم أبطال المرحلة التي سيحدثك عنها الأن .

فيبدأ بعنوان هده المرحلة (علي ناصر محمد ) آه آه هذه الفترة بالذات هي قمة الأزدهار الاقتصادي إذ كانت علبة حليب دانو ب (25شلن)هل تصدق ؟ و يأخذ في ذكر السلع و الأسعار حتى يصل إلى سعر الحبة البيرة - منتج محلي - الحبة ب(11شلن) - طبعا ترجع الفارغ - أي ﻻيشمل ثمن الزجاجة ، ثم يستعرض كيف تأمر المتأمرون أصحاب الوﻻء المطلق للاتحاد السوفيتي ، بعد أن بدأ الرئيس علي ناصر يشق عصا الطاعة عن موسكو ، فيبدأ بالحديث عن الصراع السياسي لهذه المرحلة بالرقم ( 13) وماذا يعني الرقم ( 13) ؟ أنها 13 يناير 86 م ففيها استباح الرفاق دماء بعضهم ، فيذكر لك من المخازي والمأسي حتى أن القلم ليخجل أن يكتب ماجرى فيها من ويلات ومأس يندى لها جبين التاريخ من قتل على الهوية للأبرياء من الطرفين فذنب كل ضحية من ضحايا الصراع أن بطاقته الشخصية مكتوبا عليها الثانية أو الثالثة فقط !!! وتسمع ماتقشعر منه الأبدان والجلود عن الحاويات التي كانت تملئ بالبشر ثم يتم دفنها للأبد ، وغير ذلك من صور الإبادة الجماعية المروعة ؛ وكأنه يحدثك عن الحرب الأهلية في رواندا بين عرقيتي الهوتو والتوتسي !!!

ثم ينتقل للحقبة التي تليها حقبة يغوث ويعوق ونسرى ، فتاح ، عنتر، مصلح ،شائع ، أسماء مقدسة قبل التفوه بها يغسل الفم بالماء والصابون ، عفوا عفوا بالماء والمعجون ؛ لطاهرتها ، وقدسيتها ، وسموها فخلال هذه المرحلة ظلت الجماهير لأكثر من أربع سنوات تردد شعار ( حزبك باق يافتاح حزب العامل والفلاح ) حتى بحت أصوات الجماهير من ترديده في هجير الشمس اللافحة فلايقيهم من زمهريرها إلا صور الأماجد التي سيتظلون بظلها في يوم لا ظل إلا ظلها !!!

ثم يروي لك بعدها قصة هروب الرفاق وفشلهم ولكن بطريقته هو ! فيصور فشلهم وهروبهم (للوحدة ) أنه كان تلبية لرغبة الجماهير في تحقيق الحلم الذي راود اليمنيين طويلا ، الحلم الذي ذرفت لها دموع القادة العظام يوم ارتفع علمها عاليا في سماء مدينة التواهي ، ليكتشف الجنوبيون بعدها أن الطرف الذي وقع نيابة عنهم كان مخمورا في غير وعيه ، ليخرج عليهم المعتوه مرة أخرى بعد مايقارب من عقدين من الزمن متعذرا أنه ارتكب أعظم خطيئة في تاريخ الجنوب قديمة وحديثة ، تذرف عيونه الدموع هذه المرة قهرا منها أكثر مما ذرفته فرحا يوم التوقيع عليها .

شعب بناء تاريخه على الرواية ؛ فرسم ماضية ومستقبله بيراع روائي محترف لفن القصة المليئ بالعواطف والمغامرات المثيرة ، حتى ضاهى انتاجه القصصي ما انتجه شكسبير وتولستوى وهمنحواي وديكنز مجتمعا .
شعب أمضى حياته ، ورسم مستقبله على الخيال الخصب فبدت حياته كقصة نسج فصولها خيال متدفق بالعواطف والعواصف ، كلما فتح كوة صاح من أعماق أعماقه هذا هو الطريق ،حتى إذا ما وصل إلى نهاية النفق وجد إمامه لوحة مكتوبا عليها قف ( إمامك مأساة جديدة ) .
وأخشى ما أخشاه أن يأت يوم نؤلف فيه قصة لأولأدنا يكون بطلها عفاش نحول فيها الخمس والعشرين العجاف ، إلى خمس وعشرين سمان ، فنكتب رواية جديدة نملؤها بالأمجاد التي نستمدها دائما من قدسية الماضي لأننا نتعامل مع الماضي كالقطع الأثرية الثمينة التي ﻻ تستمد قيمتها من ذاتها المادية ولكن من ذاتها الزمنية ؛ فكلما اوغلت الأحداث في القدم زدناها تبجيلا وتقديسا .

لذا علينا إذا أردنا حاضرا يليق بنا وبأجيالنا أن نرسمه بعقولنا وليس بعواعطفنا ، نستمده من حقيقة واقعنا وليس من أوهام ماضينا ، حتى لانستمر في مسلسل عض أصابع الندم كلما انقضت مرحلة من حياتنا أبدينا الأسف والحسرة على التي قبلها .
فالتاريخ مكانه الطبيعي الجامعات والمراكز البحثية تحققه وتنقحه من أوهام العواطف بعيون فاحصة وعقول متجردة من كل شئ إلا الحقيقة لنأخذ منه العضة والعبرة ، وﻻنأخذه إلى المتاحف لنحافظ عليه وكأنه قطع آثرية .

سعيد النخعي