عقلية مدمرة ، بذرت الخراب ، وحصدت الشوك ، وحولت الجنوب أرضا يباب وهي الأرض التي يزخر باطنها بالثروات النفطية والمعادن الثمينة ، ويحمل ظاهرها طبيعة متنوعه مابين البحر والسهل والجبل ، تفيض بحارها بخيرات زاخرة ، وسهولها بثمار وافرة ، وجبالها تعج بالمعادن النادرة .
قفز علي عنتر على حين قفلة من الزمن إلى هرم السلطة الذي كاد أن يصل إلى منتهاه لولا الأجل الذي داهمه في اللحظة التي كان يتأهب فيها لصعود أعلى الهرم ، وهو الرجل الأمي الذي لم يدخل مدرسة ، والثائر الذي ملأ الدنيا ضجيجا ببطولاته ؛ وهو الذي لم يعد من مهجره في الكويت إلا وقد أدلج الناس ، والثورة على وشك الإنتهاء ، والعسكري الذي حمل أعلى رتبة عسكرية في القوات المسلحة حينها على الإطلاق ، وهو الذي لم يعرف للجنديّة سبيلا ، ناهيك عن محاضن و وأكاديميات تأهيل القادة ... فكل ما كان يملكه علي عنتر هو روح الفكاهة ؛ التي استطاع من خلالها اختراق مجالس قيادة التنظيم السياسي للجبهة القومية ، فزاحم القيادة العليا للتنظيم بالمناكب والركب حتى حجز مقعده بين علية القوم .
يعدَّ علي عنتر عرّاب المناطقية في الجنوب ، ومؤسس هذا المذهب السياسي المدمر ، الذي لاتزال آثاره باقية إلى اليوم .
لم يخدم مسؤول منطقته كما خدم علي عنتر الضالع ، ولن تجد في أي منطقة آحادية القيادة والإلتفاف حولها كما يلتف أعضاء خلية النحل حول يعسوب الخلية إلا في الضالع ، ربما بسبب تركيبتها القروية بخلاف بقية مناطق الجنوب الآخرى ذات التركيبة القبلية ، فالمجتمعات القروية عبارة عن تجمعات حرفية من أصحاب المهن ، لذا كانت طبيعة المجتمع القروي أقرب إلى المجتمع المدني من حيث تشكل الوحدات الاجتماعية الصغيرة التي يتألف منها المجتمع ، وهذا أفرز واحدية القيادة ، فلم تعرف الضالع الاختلاف حول من يقودها في كل المراحل ، من عنتر وحتى الزبيدي .
مات علي عنتر ، لكن نموذجه السياسي ظل باقيا ، ومن أهم صفات هذا النموذج السياسي المتطرف ، ومميزات هذه العقلية المدمّرة الآتي :
- الشبق السلطوي ، وحب التسلط أبرز صفات هذه العقلية ، فتطلع الضالع للقب الرئيس لم يُشبع ولو لمرة واحدة ، وهذا من الأسباب النفسية لهذه العقلية عندما تصف الزبيدي بالرئيس ، وهو بدوره يتغمس الدور كما لو كان حقيقة وهذا له تفسيره في علم النفس السياسي ، إلا أن هذا لاينفي وجود فئة خيّرة متزنة من أبناء الضالع يكن لها أبناء الجنوب الأحترام والتقدير ، ولكنها فئة مغلوبة لايستمع إلى صوتها ، ولايلتفت إليها ، بل مقموعة داخل الضالع نفسها .
- الميزة الثانية لهذه العقلية التطرف والخيارات الآحادية ، والتسليم بها وكأنها مسلمات مبرأة من النقص ، ويغلب على هذه العقلية التعصب والمزايدة السياسية ، وخير مثال على ذلك الحقبة الإشتراكية ، إذ كانوا أكثر الناس تحمسا لها ، وانخراطا في صفوفها ، وحرصا على تطبيقها ، وتخوينا لمن خالفها ، أو تخلّف عن ركوب سفينتها التي لم تعرف برا ؛ ولو مرة واحدة في تاريخ هذه العقلية ، والمثال الآخر مشروع الوحدة اليمنية الذي قام في عهد هذه العقلية ، فتنازلوا عن دولة ، وعاصمة، وعملة، وسلموا بلدا بخطامه ، وتنازلوا عنه في قصاصة ورق ، لاترتقي إلى مستوى عقد إيجار شقة ؛ ينظم العلاقة بين المؤجر والمستأجر .
الميزة الثالثة لهذه العقلية المزايَدة ، ومصادرة حقوق الآخرين ، فالإطار العام لهذه العقلية يملي على أفرادها بأنهم هم المقاومون وهم المؤتمنون ، ومحاولتها الاستحواذ على أي انتصارات لنفسها ، والصاق كل كارثة أرتكبتها بغيرها ، و مثال محاولة إستئثار هذه العقلية بالانتصارات اقناع الناس أن لا مقاومة إلا في الضالع ، ولا حرب إلا فيها ، وما قصة الشيول عنّا ببعيد ، ومثال الصاق كوارثهم بغيرهم مشروع الوحدة الذي تم في عهد حكمهم ، لايزالون مصرّين إلى اليوم أن الجنوب احتل في 94م والحقيقة أن الجنوب ُسلم في عام 90م دون حرب أو ثمن .
- الميزة الثالثة المتاجرة بالقضايا الوطنية ، واستثمارها لصالح الضالع المديرية وليس للجنوب الوطن ، وخير مثال القضية الجنوبية ... لن تجد جنوبيا من أي محافظة له القدرة على مجاراتهم في الحديث عن الجنوب ، واستعادة دولته ، ولن تجد جنوبيا من أي مديرية أو محافظة يتكلم بلغة الوصاية على الجنوب ، حتى يخيّل إليك وأنت تسمع إلى لغة هذه العقلية أن بقية المحافظات الجنوبية أرض بلا شعب ، ومن يخالف هذه العقلية خائن عميل ، وخير دليل على استثمارهم ومتاجرتهم بالقضايا الوطنية لصالح المديرية ، تعيين الزبيدي محافظا لعدن ، فبمجرد تعيينه تخلى عن المقاومة والجنوب ، وأخذ يوزع المناصب والمكاسب على الثوار القادمين من الجبال ، وقال كلمته المشهورة ( لقد أنتهى زمن المقاومة ، وجاء زمن بناء الدولة ) البناء الذي أنتهى بمجرد أن غادر منصب عمدة عدن ، ليعود للحديث عن المقاومة ، واستعادة الدولة ، ولم يخالفه أتباعه حين قرر إنهاء زمن المقاومة ، ولا حين قرر العودة إليه .
نقول هذا لله وللتاريخ وللأجيال ، ليس تحاملا على أحد ، ولا لإقصاء أحد ، فيكفي ماتجرعه الجنوب من ويلات ومأسِِ ، لأن هذه العقلية لم تنتج سوى الحرائق ، ولم تجن الناس من مشاريعها إلا الخراب ، وآخر محطات هذه العقلية التدميرية ، إعلان المجلس الانتقالي ، واشعال حرب يناير الأخيرة ، فبمجرد أن خرج الحوثيون من عدن تنفس الناس الصعداء ، وتداعوا للملمت جراح الماضي ، والعمل على توحيد الصفوف لإنتزاع أكبر قدر من المشاريع من دول التحالف ، فذهبوا في طريق غير الطريق الذي أجمعت الناس عليه ، فعادوا للبضاعة القديمة استعادة الدولة ، واشعال الحروب الأهلية ؛ لطرد حكومة الاحتلال التي كانوا جزءا منها ، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم ، فلا استعادوا دولة ، ولا أسقطوا حكومة ، ولاتركوا عجلة البنا تستمر ، ليجد الناس أنفسهم بعد هذه الجولة الطويلة في نفس المربع الذي كانوا فيه قبل ثلاث سنوات .
سعيد النخعي
القاهرة 26/يونيو /2018م