يجد الكاتب نفسه عند تناول الشأن الإيراني تحديدا وكأنه يسير بأقدام حافية على الشوك لتجنب محاذير الانزلاق في الجدل العقائدي والمذهبي الذي انعكس على الكتابات السياسية ، في هذا الفضاء المسموم والأحقاد التاريخية ، رغم حرص الكثيرون على إتباع منهج العقلانية وتحليل معطيات الواقع دون المساس (بالمحذور المذهبي) وحتى لا يقعون في فخ التأويلات والتنميط المسبق ، ولهذا فأنهم ينطلقون في الكتابة عن دول الجوار تركيا وإيران من هذه الرؤية ومن منطلق المصالح المشتركة سوا لإيران آو كل الأقطار التي على ضفتي الخليج ، وتفاعل هذه الدول إقليميا مع إيران الذي يفترض ان يسودها التعايش السلمي .
فالحالة الإيرانية عموما قد فرضت نفسها في هكذا جدل منذ التحولات الجوهرية نهاية السبعينيات غداة انبلاج الثورة الإيرانية وكان جيرانهم العرب آنذاك يعولون على حليف لهم بعد الإطاحة بمن عرف بشرطي الخليج الشاه المخلوع ، وقد تزامنت الحرب العراقية الإيرانية بحالة جفاء متواصل ولاسيما وان الإمام الخميني نفسه كان يصرح بأنه سيصلي في القدس ولكن بعد ان يتوضأ في كربلاء !
وتمر السنين ويتراوح (ترمومتر) العلاقات مع جيرانها العرب اعتمادا على الفريق الحاكم إصلاحي أو محافظ ولكنها في الغالب تطبعت بحالة الشكوك المتبادلة ، واليوم وبعد أكثر من ثلث قرن من التجربة الإيرانية يبدو إنها وصلت لقناعة الحاجة للانفتاح على العالم فبالإضافة للبرجماتية والواقعية لدهاء الساسة في إيران وانطلاقهم من عقيدتهم (التُقّية) فأنها بحاجة أكثر من أي وقت مضى للخروج من عزلتها الاقتصادية الخانقة قبل أن ينفجر الوضع داخل حدودها ، وتدخل ربيعا فارسيا ، وقد تكون البوابة السورية مفتاحاً لهذا الانفراج المتوقع ، رغم أن الحصار الطويل كان سلاح ذو حدين فلاشك انه قد أفاد التجربة الإيرانية على المدى البعيد واعتمادها ذاتيا بتنمية اقتصادها التكاملي وانفتاحها على أسواق أخرى في وسط آسيا وجنوب شرق القارة الأسيوية ومحاولتها لتنويع مصادرها ، إضافة لكونها مصدر أساسي للنفط في العالم والذي تضرر لاشك جراء الحصار منعها من تسويق أهم مواردها ، ولكن يبدو أن إيران في عهد روحاني لن تفرط بمبادئها في التقنية النووية وتعتبرها خطا احمر ولن يكون هناك ما يشبة المقايضة بهذا (المنجز) الذي تحملت إيران أعباء كثيرة ومن اجل النووي وتصدير الثورة عادت جيرانها العرب والمجتمع الدولي وتسعى اليوم لإصلاح ما أفسده دهر السياسة بإبداء و يبدو أنها تسعى لأنصاف الحلول بتراجع جزئي لبرنامجها النووي وتنازلات في بعض مواقفها السياسية مقابل تخفيف جزئي أيضا ورغم إخفاق لقاء جنيف الأخير الذي أفصح عن خلاف فرنسي أمريكي إلا انه بداية لسلسلة من الاجتماعات المستقبلية وقد تفضي لتفاعل وإرضاء الطرفان حسب البيان الصادر عن ذلك الاجتماع ، من جهة أخرى فلم يعرف رد النظام في دمشق حول اتفاق المعارضة مؤخرا في لقاء استمبول على الانخراط في جنيف 2 بشروطها التي قد تبدو تعجيزيه له ، وكذا لم يتضح حتى ألان من هى الدول المشاركة فبالإضافة لاربع دول المجاورة لسوريا يتوقع بداهة انضمام الفاعلين على المستوى الإقليمي والدولي ، وفي الشأن الإيراني يُشار أن هناك إشارات قد تفضي لإبرام صفقة دولية تدخل فيها القوى والدول الفاعلة كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في مواقفها تجاه سياسية إيران وربما قبل لقاء جنيف إن انعقد سيكون هناك أيضا جملة من التفاهمات والإيحاء المتبادل من قبل الطرفين للوصول لتوافق معين كحل وسط فحضور إيران إلى جانب روسيا والصين مهم وفاعل في جنيف لإيجاد توازن ليس فقط فيما يتعلق بالأزمة السورية وإنما في عدد من القضايا على الأقل الثنائية بينها والغرب .
وبتناغم الغزل من الجانبين منذ الفوز المفاجئ للرئيس الإيراني ولاسيما بعد التواصل الأمريكي الإيراني على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك اللقاء الذي حرك المياه الراكدة واحدث صدمة لبعض العواصم ، وربما أعطى أكثر من حجمه ولكنه بالمقابل وفي مقاييس العلاقات المقطوعة منذ ثلث قرن يُعدُ تحولاً يستحق الاهتمام ، وبمجرد تواصل روحاني مع الرئيس الأمريكي لنحو ربع ساعة احدث زلزال في الإعلام والمواقف السياسية لبلدان المنطقة على السواء وتم تناول هذا الحدث من أوجه متعددة وتبارى المحللون في تحليل التفاصيل وكل شاردة وواردة ويبدو انه ليس تواصل أمريكي عابر بل مخطط له وبالفعل فأن الأمر في غاية الأهمية ليس فقط للجدل حول شخصية روحاني والغزل الأمريكي الإيراني بل لأهمية إيران ذاتها في المنطقة وأنها أصبحت رقما صعبا يحسب لها حساب ، ستزداد حتماً بعد التقارب الإيراني الأمريكي ، فبعد اول جولة مفاوضات في جنيف مؤخرا بين إيران ومجموعة 5 1 والذي أكد على حق إيران في التقنية النووية.
واللافت أن الإعلام العربي لازال يتناول العلاقات مع إيران بشئ من الريبة مع أنها قد تنفتح مع الغرب قبل جيرانها العرب ، وعلى العرب أن يدركون بأن إيران ببساطة غدت لاعب أساسي فاعل ، ودولة محورية ، وغدا المجتمع الدولي يطلب وِدْها بالفعل أو على الأقل التفاهم على الملفات الأساسية كالملف النووي وعزلة إيران الاقتصادية والتي تضررت كثيرا جراء تلك العقوبات ، ويبدو أن صلاحيات الرئيس روحاني تفوق صلاحيات الإصلاحي محمد خاتمي ولاسيما في علاقاتها مع دول الجوار والتي عرفت بالتوتر منذ نهاية السبعينيات .
وبقدر ما يتوقع المراقبون السياسيون بأن الظروف مواتية لجنيف 2 بعد نحو ثلاثون شهرا أو يزيد من بداية الأزمة في سوريا ، بقدر ما ينتابهم شكوك لنجاح المؤتمر المزمع عقده أواخر هذا العام ، وربما قد يؤجل لمطلع العام المقبل ، حتى يتم التهيئة له بقبول أكثر عدد ممكن من المشاركين ومنها بالطبع إيران وكذا لحين لملمة المعارضة السورية صفوفها ، لعل أهم مؤشرات التفاؤل هو النية لتوسعة حضور المشاركين ودخول إيران التي ترمي جملة أهداف من حضورها القوي والتي تعول إلا يكون على حساب مصالحها الإستراتيجية في قضايا أخرى لبنان فلسطين وغيرهما ، وثمة حافز بارز هو التقارب المحتمل والمتسارع بين واشنطن وطهران والذي تراقبه إسرائيل بحذر واهتمام بالغين ، والملاحظ بأن كل من طهرا ن وواشنطن دأبتا على الحرص على سعيهما إلى المقاربة وليس إلى التباعد بتوفر رغبة مزدوجة لدى الأطراف الأساسية بالسعي لحلول ، وفي ضوء هذه المعطيات والتجاذبات يحرص اللاعبان الأساسيان الكبار وكذا الإقليميين على وضع تصور ورؤى لحل الأزمة السورية بتفاهم مسبق وما جنيف 2 إلا فقط وضع النقاط على الحروف وإقرار تلك التفاهمات ، ويبدو أن رغبة المجتمع الدولي لجنيف 2 غدا مجرد أضغاث أحلام وأمنيات لم تلقى استجابة لدى الأطراف الفاعلة المفترض وجودها على مائدة المفاوضات في هذا المؤتمر فالائتلاف السوري يشترط بأن لا يكون للرئيس الأسد أي دور بعد الحوار بينما الرئيس السوري استبقهم بمقابلة هامة في الميادين ( الموالية للمحور السوري الإيراني وحزب الله ) بمقابلة يعلن رغبته للترشيح في حال رغب الشعب السوري نفسه ومؤكدا بأن هذا يعتبر شأن داخلي ولا يحق للأطراف المحتمل مشاركتها سواء كانوا من المعارضة آو من يمثلون بلدانهم ، وبغض النظر عن حقيقة ذلك من عدمه إلا أن المنطقي يستدعي تحليل كل الآراء ، وبداهة لا يُمكن أن يعتد بتصريحات طرفي النزاع سواء كان رأس النظام أو خصومة فذلك مجرد فقاعات إعلامية تدخل في سياق الحرب الإعلامية وموجهة للذات أكثر منها للخصوم ولان القضية السورية وبتداخل أطرف إقليمية ودولية غدت شأنا دولياً وهو الأمر الذي جعل مفاتيح الحل بيد تلك الأطراف ، وأجدني هنا أقارن بين مألات الربيع العربي الذي تباين في نماذجه ، فالحالة السورية اقرب للحالة اليمنية في بعض المفردات فكلاهما كان للعامل الخارجي دورا في رسم نهاية المفترضة اللازمة ، فبقدر ما للآخر دورا في إذكاء بعض محطاته أو في دوره في إيجاد حلول فداويها بالتي كانت هي الداء !
ويدعم هذه الرؤية كثير من المحللين والمراقبين وبقدر كثرة حضور المختلفين إلى جنيف2 يحمل في طياته مفاتيح الحل وسيتوقف القتال ليس فقط برغبة وقناعة السوريين بكل الأطياف ولكن عندما تشعر الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وإيران بآثار الحرب السلبية وتتوصل إلى نتيجة مفادها أن إنهاء النزاع هو مصلحة للجميع ، ويبدو لمن يتابع الشأن الإيراني وفيما يتعلق ببوادر الانفراج التي أعقبت تولي روحاني كرئيس منفتح على الغرب وبيد ممدودة لجيرانه العرب كانت كفيلة بإرباك المشهد السياسي وقلب التوقعات رأسا على عقب لدرجة حيرة المراقبين والمحللين السياسيين على السواء ، وفي ظل هذا الهجوم الدبلوماسي الإيراني المتزامن مع تداعيات الحالة السياسية والأمنية في بلدان الربيع العربي وكذا العراق متزامنا مع تنامي النزعة الطائفية في أكثر من بؤرة ابتداء من شمال ليمن وانتهاء بجنوب لبنان مرورا بالهلال الخصيب العراق وإيران ، ومن هنا فتداول الأنباء عن انفراج غربي إيراني مرتقب لاقى ارتياحا لدى البعض اعتقادا منهم بأن انفتاح الغرب على إيران وتخفيف الاحتقان والحصار القاسي سيخفف بداهة من بؤر التوتر في أكثر من منطقة عربية التي كأنها فوق فوهة بركان يغلي قد ينفجر ، ولان السياسة فن المستحيل وتليين المواقف فقد تزامن التحرك الإيراني بتصريحات غير معتادة من الإيرانيين خلال نحو ثلث قرن دون الاعتبار لشعاراتهم المعروفة والنارية فتسارعت وتيرة التحولات في ثوابتها الدبلوماسية من الشيطان الأكبر إلى الدبلوماسية الشجاعة بل وإزالة الشعارات المعادية لأمريكا من ميادين وشوارع طهران وبمباركة الإمام
يقابل ذلك تحولات لوجستيه في الساحة السورية فبالإضافة إلى الانتصارات التي صنعها النظام في الشهور الأخيرة ترافق ذلك مع تنازلات بشأن الملف الكيميائي وفي نفس الوقت سوّق النظام لقوة وفاعلية التيارات الإسلامية المتطرفة ودعمها لوجستياً سواء كانت (جبهة النصرة) أو( داحش) على أنهما جزاء من المعارضة وربما هو بإيعاز وتشجيع صريح او ضمني المهم انه في نهاية المطاف صناعة روسية إيرانية عراقية ، فالغرب ودول المنطقة تخشى تصاعد تلك القوى المتطرفة بحيث تجعل الغرب وإسرائيل يفضلان بقاء النظام بعد خلع أنيابة الكيمائية هذا باختصار ما يتم تهيئته قبيل جنيف 2 ، ومن هنا فحسابات النظام للمشاركة في جنيف 2 توحي بأنه يخير المعارضة والآخر الإقليمي والدولي بأنه أما النظام ما بعد الكيماوي او هذه الجماعات المتطرفة .
*دبلوماسي يمني وكاتب سياسي