فجائع الحراك الانفصالي في مؤتمر الحوار! (1)

2013/05/18 الساعة 03:46 صباحاً

فجيعة شاملة هو أقل ما يمكن أن توصف به الرؤية التي تقدم بها ما يوصف بالحراك الجنوبي إلى مؤتمر الحوار! وهي فجيعة لأنها جمعت في داخلها أقاويل مرسلة، وأكاذيب وسموما من كل نوع، حتى تلك الأقاويل الأخلاقية السيئة التي اعتاد من يسمونهم بعيال السوق أن يرددوها دون تحرج أو شعور بأن الآداب العامة تفرض على أي متكلم في نادٍ عام أن يراعي مشاعر السامعين!

والحق أن هذه الفجيعة الشاملة: وطنيا وأخلاقيا تنذر بسوء مآلات بعض مخرجات مؤتمر الحوار؛ إن لم يتدارك الوالد رئيس الجمهورية الأمر بإصلاح فوري في مكونات ممثليه يعيد إليه التوزان المفترض؛ باعتباره أولا المسؤول الأول في البلاد ومؤتمر الحوار، وثانيا المسؤول عن تسمية هؤلاء المشاركين باسم الحراك الجنوبي في المؤتمر!

لا أتردد في القول إن هناك غلطة خطيرة ارتكبت في حصر المشاركين باسم الحراك على نوعية معينة منه؛ مع أن الحراك ليس كله شيئا واحدا، وكان يجب توزيع نسبته على الموافقين على المشاركة من مختلف الفصائل.. ولذلك لا يمكن أبدا أن يقال إن هذه الرؤية تمثل فصيلا مثل الرئيس السابق علي ناصر محمد، أو حتى الرموز المعروفة بانتمائها للحزب الاشتراكي اليمني.. فكما أن هناك حراكا انفصاليا فهناك أيضا حراك غير انفصالي.. وحتى الانفصالي ليس شيئا واحدا على الأقل في توصيف أجزاء من تاريخ القضية الجنوبية وتحديد مبتدأها ومحتواها!

لا يعني هذا النقد الموجه لرؤية ما يسمى بالحراك الجنوبي أن بقية الرؤى كانت سليمة تماما، فقد قلنا رأينا فيما نعتقد أنه الرؤية الأقرب للصواب في مقالات «جذور القضية الجنوبية» لكن ما تفردت به رؤية هذا الحراك أنها سلطة سموم عفنة أو «مخضّريّة» على رأي نكتة التركي الشائعة في صنعاء.. وأثناء قراءتها سوف يكتشف المرء بسهولة الخلفيات السياسية وحتى الأسماء التي تقف وراء هذه الفكرة أو تلك العبارة.. ومن السهولة تتبع رائحة أصابع أصحاب المشاريع القديمة والطامحين الجدد بتاج الخرز! وفي كل الأحوال سوف نكتشف أن طريقة صياغة الرؤية جاءت خلاصة تربيطات وتفاهمات بين قوى وأفراد حتى من تلك التي رفضت المشاركة في الحوار وقاطعته (بل تبنت آراء ماركسية شمالية متطرفة مشهورة حول بعض الأحداث التاريخية منشؤها تجربتهم في الشمال مع أنظمة الحكم بدءا من الإمام يحيى!) لكنها كما يفهم أسهمت مباشرة أو بصورة غير مباشرة في الصياغة.. وكل المشار إليهم سمحوا بأن يقال كل شيء بصرف النظر عن صحته أو لياقته الأخلاقية مقابل أن يعفى فصيل سياسي ما أو قيادي ما من المحسوبين على المتبنين للصياغة من اللوم الصريح وتحميله بالاسم مسؤولية جرائم قديمة أو جديدة تم تجاهل دورها في صنع مأساة الجنوب.. على أن يتم تحميل كل مسؤولية وكل مصيبة للجدران الصغيرة كما يقال؛ مثل مبدأ «الوحدة» أو جهة حزبية ما أو شخص ما يعلم المشاركون في الصياغة أنها لم تعد تهتم بما يقال عنها من كثرته وإسفافه!

[2]
ولأن الرؤية جاءت طويلة، وحشرت فيها كل الأقاويل والأكاذيب والمبالغات التي يتنفس من خلالها الحراك الانفصالي منذ بدايته؛ فستكون المناقشة على حلقات، وسنبدأ أولا بالملاحظات العامة أو السريعة ونؤجل ما يحتاج إلى نقد مبسوط إلى غد أو بعد غد!

أسلفنا أن هذه الرؤية لا يمكن وصفها بأنها رؤية للحراك الجنوبي دون تمييز، وكان يفترض أن توضع في خاتمتها أسماء الشخصيات والمكونات المتبنية لها حتى تكون الأمور واضحة ولا يتخفى البعض وراء عنوان فضفاض!

أما أحد أبرز مظاهرها فهو استهانتها بالقارىء وبالجنوبيين، وتعاملها مع الرأي العام بأنه مجموعة من الجهلة، استنادا كما يبدو إلى حالة الإرهاب الفكري المسلطة على من ينتقد أو يكتب ضد أكاذيب الحراك، وهي حالة تلبست كثيرين للأسف الشديد ففضلوا السكوت على أن يتهموا بالباطل أنهم أعداء للجنوب وعملاء للرئيس السابق!

عديدة هي مكونات الخلطة المسمومة في رؤية الحراك. ومن ذلك مثلا الزعم ببهررة غريبة أن الشعب اليمني في الجنوب والشمال (الحقيقة الرؤيةلم تقل: اليمني.. لكني أضفتها حناكة فيهم!) لا يعلم عن اتفاقية الوحدة شيئا سوى ما تسرب بأنها من صفحة ونصف.. مصيبة فعلا.. طيب ولماذا لا يستشيرون علي سالم البيض عن الحقيقة وينوروا الشعب غير اليمني واليمني معا عن النص الكامل المفترض لاتفاقية الوحدة أم أن ما تسرب هو كل شيء؟

هذا أولا؛ ثانيا: زعموا أن الاتفاقية لم تودع في المنظمات الدولية.. لكن لم يقولوا على أي أساس تم دمج مقعدي دولتي اليمن في الأمم المتحدة والجامعة العربية؟ هل برر المندوبون اليمنيون فعلهم ذاك بأنه مجرد تقشف لتوفير المرتبات وبدل التشطير، ومحاربة لجشع المؤجرين أم قالوا لهم: إحنا توحدنا خلاص.. والبيت صار واحد.. والبيض صار نائب.. والعطاس رئيس وزراء.. وهاكم اتفاقية الوحدة؟

حكاية أخرى يرددونها أن اتفاقية الوحدة لم تقم على أسس وقواعد القانون الدولي والمواثيق الدولية.. ولن نقول لهم: بينوا لنا ما هي هذه الأسس والقواعد لكيلا يتكرر في الانفصال ما حدث مع الوحدة؛ لكن سنقول لهم: وكيف قبلها المجتمع الدولي وتعامل معها بجد؟ وكيف ما يزال هذا المجتمع الدولي هو أقوى صوت يرفض الانفصال –بصرف النظر عن أهدافه- وبأقوى مما يحدث مع كثير من القوى اليمنية؟

سوء المناهج في بعض كليات الحقوق اليمنية (والصديقة) يبدو واضحا في طريقة تفكير العناصر التي درست فيها، وقدمت آراءها القانونية للرؤية مثل الإصرار على أن الاتفاقية لم تصف نفسها بأنها قانونية أو ذات بعد قانوني مما يعني تشكيكا في قانونيتها.. معقول هذا؟ اتفاقية يقرها مجلسان تشريعيان ويوقع عليها كل المسؤولين في الشطرين وبالتحديد: 71 قياديا ثم يستفتى على الدستور.. ويأكل الجميع هريسة ورواني وبنت الصحن باسم الوحدة ثم يقال الآن: الاتفاقية ديك مش قانونية؟!

المفاجأة الانفصالية.. أنه رغم كل هذا الطعن الابن علواني في ظهر الاتفاقية لتأكيد عدم شرعيتها؛ إلا أنهم ينسون ذلك، وما يزالون حتى الآن يتهمون الطرف الشمالي بأنه انقلب على اتفاقية الوحدة السلمية الطوعية الديمقراطية، ويستندون إليها عندما يريدون إدانة الطرف الآخر! مثل قولهم إن تعديل الدستور بعد الحرب تم بالمخالفة لاتفاقية الوحدة التي تنص على «يسود العمل بدستور دولة الوحدة والشرعية الدستورية وعدم اللجوء إلى تجاوز الدستور أو تعديله» بينما تم تعديله مباشرة بعد حرب 1994!... المفاجأة الأسوأ؛ وأنا أكتب هذا ونص الاتفاقية أمامي؛ أن هذا النص يقصد به صراحة: الفترة الانتقالية فقط.. والمحامي الذي قدم مشورته حذف ذلك من مقدمة العبارة ثم حذف لأمانته الكلمات التالية: «أو تعديله من قبل أي جهة غير مخولة حق التعديل»! وفي كل الأحوال فالانتخابات النيابية 1993 ألغت مفعول اتفاقية الوحدة تماما، ولم يعد لها وجود، والتعديلات الذي حدثت تمت بناء على مواد في دستور الوحدة نفسه وبموافقة كل القوى، ومن قبل الجهة المخولة بالتعديل وهي: مجلس النواب!

[3]
أساليب التضليل لخداع المساكين كانت مهيمنة على الرؤية.. ومن ذلك إيراد عبارات موضوعة بين قوسين دليل النقل الحرفي منسوبة لقيادات شمالية تحمل معاني من البغض والكراهية والاحتقار للجنوب والجنوبيين، وبالعودة للمصادر المذكور أنها أخذت منها يتضح مدى جناية هذه المجموعة من اليمنيين (يمنيين غصبا عنهم!) على أنفسهم ومواطنيهم وهم ما يزالون في موفنبيك ولم يستلموا سلطة بعد: انفصالية أو فيدرالية، فكلها مصادر غير أصلية وتعتمد على كتابات انفصاليين معروفين!

1- نبدأ اولا بالكلام المنسوب للشيخ عبد الله إنه قال في مذكراته: «نحن رفضنا الوحدة ولكن الرئيس وعدنا بأنه سيقضي على الجنوبيين ويبتلع الجنوب خلال ثلاث سنوات..». بعد كتابة هذه الكلمات فتحت مذكرات الشيخ في الفترة نفسها، وللأسف المؤلم أن هذا الكلام غير صحيح، وهو اتهامات ملفقة.. وكلام الشيخ عن الوحدة كان جميلا ومتزنا، وهو يفرق بين النظام الحاكم وبين الشعب في الجنوب تفريقا تاما عند نقد شيء ما.. وهل يعقل أن يقول الشيخ مثل هذا الكلام؟

2- اتهام الدكتور الإرياني بأنه قال بعد الحرب مباشرة: «لقد ابتلعنا الجنوب ولم يبقَ إلا هضمه!» وليس دفاعا عن الإرياني فأنا من الناس الذين لا يحبونه، لكنه أذكى من ذلك بكثير، وهو يزن عادة كلماته يميزان تراث القضاة من آبائه، ولا يمكن قبول هذه الرواية إلا بمعايير علمية، وإلا فإنها من جملة عمليات التضليل الحراكي المعروفة!

3- اتهام الأستاذ محمد اليدومي بأنه قال «إن من حق الشماليين أن يزجوا بالملايين إلى الجنوب لتغيير الخارطة الديمغرافية..» وهذه من ترويجات الدكتور محمد السقاف القديمة، ونحن سمعنا كلام اليدومي يومها وهو لم يقل ذلك ألبتة، وكان كلامه عن واحدية الشعب والوطن اليمني التي لا تمنع أبدا أن يذهب مليون يمني من الشمال للعيش في الجنوب. وليس في ذلك أي مشكلة، فحتى الدكتور السقاف نزح من الجنوب إلى الشمال –مثل مئات الآلاف من الجنوبيين- وعمل في جامعة صنعاء في السبعينيات، ثم تركها وسافر للعمل في السعودية ثم عاد بعد الوحدة (أو ربما بعد الحرب) وفشل في العودة إلى الجامعة التي كانت قد فصلته بالضرورة، وظل موقف الجامعة من عودته يؤلمه، وربما تصلح هذه المعلومة التي أخبرني بها لتفسير مواقف كثيرة والإجابة عن سؤال: هل صحيح أن هذا الدكتور متخرج من.. فرنسا؟

4- اتهام الشيخ الشايف بأنه قال: ليس هناك شيء اسمه الجنوب فقد أخذناه بالسيف.. والحق فليس عندي ما أرفض به قبول هذه الرواية إلا أن أنها وردت في رؤية الكذب الشامل حتى أقتنع بصحة نسبتها للشائف!

5- اتهام الأخ عادل الأحمدي بأنه «دعا لإبادة نصف مليون من الجنوبيين الأوغاد لكي يعيش العشرون المليون الشمالي الآخرون بسلام».. وهو اتهام غير صحيح وتم تحريف الكلام، وتغيير الألفاظ والمعاني على طريقة أحمد الحبيشي المعروفة، ويمكن مقارنة هذا الاتهام بالأصل لمعرفة الحقيقة!

6- اتهام الرئيس السابق علي صالح (كممثل للشماليين) بأنه قال إنه سيحول عدن إلى قرية.. وصحيح أن الرؤية سارعت بعد توجيه التهمة للتنصل منها بأنها ربما كانت غير حقيقية ومن نوعية أقاويل المقايل؛ إلا أنها اعتبرت أن الحالة التي صارت عليها عدن بعد الوحدة وخاصة بعد 1994 تجسيد واقعي للعبارة!

ما رأيكم الآن أن نستشهد بزعيم تاريخي من زعماء الجنوب والحراك اسمه: علي ناصر محمد، وكان رئيسا للجنوب، وأمينا عاما للحزب الحاكم.. وكمان رئيسا للوزراء.. نستشهد به عمن قال بأنه سيحول عدن إلى قرية! وحولها وفق شهادته بالفعل إلى قرية! اقرأوا ما قاله الرئيس السابق في أول خطاب وجهه للشعب في الجنوب في 24 يناير بعد كارثة 13 يناير 1986 وهو يشرح أسباب خلافه مع علي عنتر بعد إزاحته من وزارة الدفاع:

«وأصبح همه الطعن في كل القرارات خارج الأطر العليا وعلى سبيل المثال لا الحصر: وقوفه ضد المشاريع التطويرية التي أقيمت في العاصمة عدن.. وأنا لا أقول هذا الكلام بهدف الإثارة أو التأثير على نفسيات المواطنين بل كان لهذه الزمرة موقف من المشاريع التطويرية في عدن كمشاريع الماء والكهرباء والإنارة وتعبيد الطرقات وإقامة المنتزهات العامة للمواطنين في عدن باعتبارها عاصمة.. واعتبروا كل المشاريع التي قامت نوعا من الترف الذي لا مبرر له، وأن عدن يجب أن تتحول كما سماه أو تحدث عنتر إلى.. قرية!».

ليس هذا الكلام دفاعا عن علي صالح فحتى مؤلفي الرؤية شككوا في التهمة، لكن كم واحد من مهووسي الحراك الانفصالي قرأها وانتبه للنفي؟ على العموم أقرر هنا أن عدن كمدينة عرفت سنوات عمران وبناء عام وخاص متميزة بعد 1994.. ويعرف القراء حالة عدن عشية الوحدة من قراءة المقتطفات الصحفية التي نشرت هنا الأيام الماضية، وفي آخر زيارة لي إلى عدن (مارس 2010) كانت عدن أحسن بكثير من ناحية البناء والعمران والمشاريع والحدائق والطرقات الطويلة والشوارع الداخلية والكليات الجامعية، بل تحولت مناطق في الشيخ عثمان من مستنقعات وأماكن مهجورة كما كان معروفا من أيام الإنجليز إلى أحياء جميلة، وأعيد بناء مدارس قديمة درس فيها من هم أكبر منا سنا بكثير.. ولا شك أن ذلك الوضع تحسن أكثر خلال الشهور الستة التالية بسبب المشاريع التي نفذت من أجل خليجي 20.. ومع ذلك فليس هذا إنكارا لوجود مشاكل وفساد ومعاناة ومظالم في عدن وغيرها؛ لكن متى كانت عدن والجنوب تخلو من ذلك؟ وباستثناء حجم الفساد القليل مقارنة بالشمال فقد كان الوضع في الجنوب قبل الوحدة وخاصة عدن صورة من الجحيم المادي والمعنوي، وقد عبر أهالي عدن عن ذلك الوضع بنكتة بعد 13 يناير قالوا فيها: «إن أحد قيادات الحزب الراحلين اتصل هاتفيا بعدن من جهنم ودفع مقابل ذلك مبلغا أقل بكثير مما دفعه الزعيم الشيوعي لينين عند اتصاله بروسيا.. ولما احتج لينين على تلك التفرقة في المعاملة قيل له إن مكالمة القيادي اليمني من جهنم إلى عدن رخيصة لأنها مكالمة.. داخلية!»