نتطلع للدولة المدنية، وانصب نضالنا من أجل ذلك، وكنا نرفض الزج بالقبيلة في الأمور السياسية، حتى لا تتحول لأداة سياسية تفرض نفسها علينا، لأن الفكر القبلي مبني على التمايز بين الأفراد، وهذا يتنافى مع مبدأ الحرية وحقوق الإنسان، ويُختار شيخ القبيلة على أسس الوراثة والقوة، بعكس المجتمع المدني الذي يُبنى من الأفراد الأكثر قوة في التعبير عن ذاتهم، والأكثر حرية وقرارًا، تجمعهم أفكار يتكتلون على شكل أحزاب ومنظمات مجتمع مدني، والعمال تجمعهم نقابات تدافع عن حقوقهم، كل هذا يُدعى بنظام مؤسسات المجتمع المدني.
ومنذ الثورات الأولى التي تشكلت على شكل أفكار، كان المجتمع القبلي حاضرًا ولكنه على شكل أفراد، وليس كقبيلة، ومجرد ما أن انتصرت الثورة، بدأت القبيلة تتسلق مؤسسات الدولة، لنجد القبيلة حاضرة، وداعمة لأشخاص ينتمون لها ولشيوخ القبائل، فكان مصطلح "رئيس الشيخ" و"شيخ الرئيس" حاضرا.
حُوصِر المجتمع المدني بالقبائل، تعز وعدن والمكلا وبعض المناطق أصبحت النقاط الأضعف، بضعف القبيلة فيها، في بنية دولة تسيطر عليها القبائل الأكثر قوة ونفوذًا في السلطة، حتى في نظام الجنوب الاشتراكي، كان يُوضع للقبيلة ألف حساب، إن أُقيل فرد في السلطة فلا بد أن يكون البديل من نفس القبيلة، فوجدنا القبيلة تُناصر أفرادها، وما زلنا نتذكر إقالة محافظ عدن حينها (يحيى عثمان) واحتجاج قبيلته على إقالته، فكان النظام يضع للقبائل القوية مكانة في تقاسم السلطة وتغييراتها.
فالمطالبات الجماهيرية تنادي بالدولة المدنية العادلة، وتتحرك بأدوات مدنية، وأول ما تتشكل قيادة، كلٌّ يعود لاختيار فريقه من قبيلته، ونجد ولاءه للقبيلة أكثر، ويضيع المجتمع المدني في التقاسم القبلي للقبائل الأكثر نفوذًا واستحواذًا، واليوم تحكمنا مجموعة قبائل، وقوات عسكرية قبلية، تحركات القائد هي مجموعة من القبائل، والخطاب هو نفسه قبلي، وهذا ما استفز القبائل الأخرى، وبدأت تلك القبائل تُرتِّب نفسها، كما يُقال إن أردتم دولة فنحن معها، وإن أردتم قبيلة فنحن قبائل، وهذه أرضنا. ونحن اليوم لا نستطيع حقًا أن نُدين مفهوم القبيلة، في المطلق، فهو مكون أصيل في المجتمع اليمني، بل لأنه كان الرابط العميق الذي يُوحِّد الناس في صحارٍ مترامية، وعندما استُفزت من قِبل قبائل في السلطة، وُجد من الضروري أن يكون حاضرًا في الحفاظ على الأرض والثروة والإنسان، لأن قبائل السلطة تنمرت على الجميع، بعدما تلقت الدعم الكافي من قِبل الخارج في المال والتسليح والحماية والعلاقات الدولية، وبدأت تتحول لسمسار مع الداعم في عقد صفقات لبيع الأرض والمرتكزات الاقتصادية ومواقع الثروة والجزر والموانئ، مما استفز القبائل للدفاع عن أرضها وممتلكاتها وثروتها والإنسان فيها.
نرى اليوم القبائل تُستفَز، وهو استفزاز حميد، لأن القبيلة لا يمكن أن تُفرِّط في أرضها وثروتها وسيادتها، تلك القبائل الأصيلة، بأصالة تاريخ اليمن، قبائل كندة ومأرب وحضرموت، وكل قبائل اليمن، التاريخ يحكي تمسكها بالأرض والعهود والقيم النبيلة، لن تسمح بالغزو مهما كان شكل هذا الغزو، باسم الدولة التي يُفترض أن يكونوا فيها شركاء، كما قالوا إن أردتم دولة فنحن شركاء فيها بالقرار، وإن أردتم قبيلة فنحن قبائل وهذه أرضنا ولكم أرضكم، ويجب أن يكون بيننا عقد اجتماعي سياسي، يُحدد ما لنا وما لكم، وشكل الدولة.
مشكلتنا في اليمن شماله وجنوبه، أننا مجتمع قبلي يتصيد السلطة، وأول ما يصل إليها يبدأ في فرض نفسه سيدًا على كل القبائل والمجتمعات المدنية، خطابه بنفس قبلي، وموكبه تحركات قبلية، وقواته كتائب قبلية، يُشكِّل له جدارًا من قبائله تحميه وتدعمه، بل تُقاتل من ينتقده أو يفكر في تغييره من رأس السلطة، وإذا بنا في مشكلة مع قبيلة القائد والقبائل المتحالفة معها، وما علينا اليوم إلا القبول بتحالف قبلي يكون داعمًا للدولة والمؤسسات المدنية والكفاءات والكوادر المهنية، وأي قبيلة ستحاول أن تسيطر ستكون القبائل لها بالمرصاد وفق العهد، والله الموفق.
*المقال خاص بالمهرية نت *