في مسار الأحداث التي مر بها اليمن خلال السنوات الماضية، تكاد لا توجد مؤسسة واحدة لم تطلها أيدي جماعة الحوثي، سواء بالتفكيك أو التوجيه أو إعادة التشكيل. ومنها جامعة العلوم والتكنولوجيا في صنعاء بوصفها حالة خاصة، تمثّل نقطة تقاطع دقيقة بين المعرفة والسيطرة، بين التعليم كقيمة، والتعليم كأداة.
قبل خمس سنوات، كانت هذه الجامعة تمثل واحدة من أهم المؤسسات الأكاديمية الأهلية في البلاد، تحتضن آلاف الطلاب من مختلف المحافظات، وتقدّم نموذجًا متقدمًا نسبيًا على مستوى التعليم العالي في اليمن. غير أن ما حدث منذ تلك اللحظة حتى اليوم ليس مجرد انتقال إداري، ولا حتى صراع على الموارد أو النفوذ؛ ما جرى هو عملية تحويل كاملة للجامعة، من مؤسسة مدنية معرفية إلى ذراع ثقافي وعسكري لمشروع أيديولوجي مغلق.
المسألة بدأت على نحو متدرج، ووفق نمط مألوف في مثل هذه السياقات: السيطرة على القرار الإداري، إعادة تشكيل الهيكل الأكاديمي، إزاحة العناصر المستقلة أو المعارضة، ثم التوغل داخل المناهج ذاتها. لم تعد المقررات الدراسية تُراجع من قبل لجان علمية محايدة، وإنما من قبل مشرفين ثقافيين يتبعون الجماعة، ويقيسون صلاحية المادة العلمية بمقدار انسجامها مع "الثقافة القرآنية" التي تتبناها الجماعة، لا مع المعايير الأكاديمية أو العلمية.
وهكذا، أُعيد إنتاج المناهج بما يخدم المشروع السياسي والديني للحوثيين. في أقسام الطب، الهندسة، الإعلام، بل وحتى العلوم الإدارية، ظهرت مفردات دخيلة على الحقل العلمي، وأُقحمت موضوعات أيديولوجية عقائدية لا تمتّ بصلة إلى التعليم. هذه ليست عملية تطوير، أنها إعادة توجيه للوعي، تهدف إلى إخضاع الطالب، للفكر الحوثي .
ثم جاء الدور على الجسد ذاته. فإلى جانب التلقين الفكري، فُرضت على الطلاب المشاركة في دورات قتالية، أو ما يُسمّى بالدورات الثقافية. لم تكن هذه مشاركة اختيارية، بل تحولت في كثير من الحالات إلى شرط غير معلن للتخرج أو للنجاح في بعض المقررات. في حالات موثّقة، طُلب من الطلاب الالتحاق بجبهات القتال في سياق ما سُمِّي "بخدمة المجتمع"، وهو توصيف مُربك يعكس حجم العبث بالمصطلحات، ومحاولة شرعنة الفعل العسكري تحت مظلة مدنية.
وما بين المناهج والعسكرة، وُضع أعضاء هيئة التدريس أمام معادلة صعبة. طُلب منهم التعامل مع الطلاب من منطلق الولاء، لا من منطلق التحصيل العلمي. بل إن بعضهم اضطر إلى تعمُّد رسوب طلاب امتنعوا عن الانخراط في الجبهات. بهذا المعنى، تم تسييس العلم، وتأميم الضمير الأكاديمي، وتحوّل الأستاذ الجامعي إلى موظف في جهاز أمني، لا حامل رسالة معرفية.
وعندما حاول بعض الطلاب الانسحاب من هذه المنظومة، والانتقال إلى جامعات أخرى، واجهوا الجدار الأكثر صلابة: المنع المطلق من نقل الملفات. لا أحد يُغادر المؤسسة إلا بإذن، وأحيانًا لا يُغادر إطلاقًا. حتى من عاد من الجبهة دون أن يُقتل، حُرم من حقه في استكمال دراسته في مؤسسات تعليمية أخرى تحت سيطرة الحكومة الشرعية. وهذا، في جوهره، يُشير إلى طبيعة العلاقة التي تريد الجماعة أن تفرضها على المواطن: علاقة قائمة على الاستتباع التام، لا المشاركة، وعلى المصادرة، لا التعاقد.
إن ما يجري في جامعة العلوم والتكنولوجيا في صنعاء اليوم هو جزء من مشهد أكبر، لا يخص مؤسسة تعليمية واحدة، بقدر ما يعكس فلسفة حكم كاملة. نحن أمام مشروع يستخدم التعليم كوسيلة لإعادة إنتاج السيطرة. وقد تكون الكارثة الأكبر، ليست فقط في حجم ما ضاع من وقت الطلاب، وإنما في الجيل القادم الذي سيتربى في بيئة معرفية خاضعة للتأويل السياسي والخرافي، فاقدة للاستقلال، متصالحة مع القمع، ومتصادمة مع كل ما يُمثّل العالم الحديث.
أكثر ما يثير الغضب والسخط في هذا المشهد العبثي هو ما قامت به الجماعة من منع الطلاب الراغبين في مغادرة الجامعة أو نقل ملفاتهم إلى جامعات أخرى. أغلقت الأبواب، ومنعت حتى أولئك الذين حاولوا النجاة من الجحيم، كأنها تريد أن تقول: لا خروج من هذه المؤسسة إلا إلى القبر. كل من طلب ملفه قوبل بالرفض، وكل من حاول الهرب من هذا المصير أُدرج ضمن قوائم المراقبة والعقاب، وأصبح مستهدفًا لأنه فقط يحلم بالتعليم بعيدًا عن قعقعة السلاح.
بلغت المليشيا ذروة الحماقة حين أصدرت قرارًا بعدم السماح بنقل ملفات الطلاب الذين عادوا من جبهات القتال دون أن يموتوا. وكأنها تعتبر من نجا من الموت خائنًا للمشروع، لا يستحق الحياة ولا التعليم. صادرت عليهم حقهم في إكمال دراستهم داخل الجامعات الواقعة تحت سلطة الحكومة الشرعية، في انتقام مباشر من كل من حاول أن يخرج من عباءة الطاعة القسرية.
هذه ليست جماعة سياسية، ولا سلطة أمر واقع، هذه آلة جريمة تمشي على قدمين. تنهبك، تسلبك رغيفك، تسرق وقتك، وتختطف حلمك، ثم تسوقك إلى المقصلة مقابل شهادة تافهة لا تساوي قطرة دم واحدة. كل شاب يمني يعيش تحت سطوة هذه العصابة يدفع ضريبة باهظة: روحه، وحلمه، ومستقبله. لم يعد الحلم في هذه البلاد هو التخرج أو العمل، بل النجاة فقط. النجاة من الموت، من القهر، من التسليع، ومن تحويل الحياة نفسها إلى جريمة يعاقب عليها الفكر الطائفي المريض.
لا تعدو معركة استعادة التعليم في اليمن تفصيلًا ثانويًا في جدول أولويات المستقبل؛ إنها معركة وجود؛ لأن أي مشروع وطني لا يمر عبر تحرير الجامعة، سيكون مشروعًا مشوهًا، يتحرك على ساق واحدة.