جبل من كرتون

2025/08/06 الساعة 10:59 صباحاً

 

 د. غزوان طربوش
بنكهة الأديب اليمني محمد عبد الولي

 "أعرفُ أنني سأموت غريبًا، كما عشتُ غريبًا... لكنّي كنت أحلم بوطن، لا قرية فيه تُقصي قرية، ولا جبل ينظر بازدراء إلى وادٍ"
 مستلهم من روح محمد عبد الولي

في صباحٍ رمادي من شتاء أستراليا، حيث لا صوت سوى صفير الريح بين الأشجار، رنّ هاتفي. كان الرقم محليًا، لكن الصوت القادم لم يكن كذلك. كان صوتًا يأتي من زمنٍ آخر. صديق قديم من تعز، لا من المعافر، ولا من المواسط، ولا من الحجرية، بل من مكانٍ ما في الجبل الكبير الذي لا أعرف حدوده ولا يريد هو أن يعرف حدوده.

كان معه إخوة، كانوا يومًا أصدقائي، وكأن القدر قرر أن يجمعنا مرةً أخرى، لا على أرضٍ يمنية، بل على تراب المنفى.

سُررتُ لسماع صوته، فقد كان في ذاكرتي كالطود الراسخ: هادئًا، ناضجًا، متزنًا. رجلٌ كنت أظنه خرج من عباءة العصبية، ولبس ثوب الوطن. لكن سرعان ما خاب ظني، حين قالها بنبرة لم تخفِ ما وراءها:
*"مالك وما المشكلة مع صاحب البلاد؟"*

شعرتُ وكأنني سقطت فجأة من قمة الجبل إلى قاع الحفرة.
أي بلاد؟ ومن هو صاحبها؟ ومن نحن؟
رددت عليه، بهدوء كمن يحترم نفسه لا خصمه:
*"أنا كمان من البلاد... وبلادي اليمن كلها."*

تغيرت نبرته بسرعة. فهم أن الكلمة خرجت منه خاسرة. لكن الضرر قد حصل. الجرح الذي خلفته في ذاكرتي كان أعمق من أن يُرمّم بمجاملة.

ثم بدأ يتحدث بلغة "الشيخ"، لا بلغة الصديق.
قال إنه يريد "تحكيماً قبليًا" بيني وبين صديق آخر.
وهدد، بكل بساطة، أنه إن لم نخضع له، فسوف يصدر بيانًا تحذيريًا باسم الجالية، وكأننا في سوق قبلي، لا في دولة قانون.

نسي – أو لعله لم يعرف من الأصل – أن الجالية لها قنوات رسمية، وأنها ليست غنيمة عشائرية بيده، يصدر باسمها ما شاء، ويشهر بمن شاء.

كنت أنظر إلى الهاتف وأكاد لا أصدّق:
هذا الذي كنت أراه "جبلًا"، لم يكن سوى *جبل من كرتون*.
مُجرد هيبةٍ من ورق، تسقط عند أول قطرة وعي وكرامة.

خرجت من تلك المكالمة أحمل في قلبي غصة، وفي عقلي سؤالًا لم يفارقني:
لماذا تفشل أحلامنا كلما اقتربنا منها؟ لماذا يطاردنا وهم "البلاد" حتى في بلاد الغربة؟ لماذا لا نكفّ عن صراع القرى، حتى ونحن نعيش في دول تعلّمنا أن الإنسان يُقاس بوعيه، لا بأصله؟

نحن أبناء وطن واحد، لا نحتاج إلى شيخ يفصل بيننا، بل إلى ضمير يعيدنا إلى حقيقتنا.

اليمن ليست مواسط أو معافر أو عدن أو صنعاء أو وصاب.
اليمن فكرة، وطن، حلم.
وإذا لم نرتقِ لنكون أبناء هذا الحلم، فإننا نستحق كل هذا التشظي.
سنظل نجتر خيباتنا، ونكتب رسائل طويلة من منفاها الأخير... إلى جبلٍ من كرتون.