قم بالبحث عن اسم "فريدا كالو" (Frida kahlo) وستقابل عشرات الصور واللوحات لامرأة حادة الملامح، ذات حاجبين متصلين مميزين، وشعر أسود قاتم، وبملابس ملونة وزهور زاهية تشير إلى تأثرها بتراثها المكسيكي.
تعد كالو واحدة من أهم الفنانات حتى وقتنا هذا، وتشتهر أكثر من أي شيء آخر برسمها وجهها ذاته، كأنها تخلد سجل تطورها الشكلي والفني، وبسبب حادث تعرضت له في شبابها جعل حركتها محدودة، وحكم عليها بالاستلقاء المستمر، وأصبح وجهها في المرآه رفيقها الدائم، وبجانبها فراشيها وألوانها الزيتية التي تقتل بها الوقت، وتعبر عن ذاتها المتغيرة على الدوام.
لم تكن فريدا الأولى أو الأخيرة التي سعت لاستكشاف خواص الصورة الشخصية، فهي جزء متأصل من فن الرسم وبعده الفوتوغرافيا منذ سنوات، وتغيرت أهدافه وطرق تنفيذه حتى وصل لسهولته القصوى بتوافر الكاميرات الأمامية في الهواتف المحمولة، وتغير اسمه من "الصورة الذاتية" (self portrait) إلى اختصارها بـ "سيلفي" (selfie)، فهل يعطينا تاريخ الفن فكرة عن ذلك التطور؟
فريدا كالو تشتهر برسمها وجهها أكثر من أي شيء آخر (مواقع التواصل) |
سبق الفراعنة
تصعب الإشارة إلى صورة واحدة، تاريخ محدد أو فنان بعينه والجزم بأن تلك هي المحاولة الأولى لتمثيل الذات في التاريخ، حتى قبل أن يصبح الفن ممارسة فردية، أي عندما كان ممارسة تأريخية وحضارية في العصور القديمة، فإن الصورة الشخصية متواجدة، ومختبئة بشكل ما.
الفنان سواء كان رساما أو نحاتا يضع ذاته في منتجه النهائي، سواء كانت تلك الذاتية روحية أو تشابها مع ملامحه الشخصية، ويمكن لمس ذلك في التكهنات التي لا تتوقف عن كون اللوحة الأشهر "الموناليزا" هي مجرد تنويع على ملامح صانعها ليوناردو دا فينشي.
لكن يمكن بشكل حر اعتبار إحدى أول الصور الشخصية المحفوظة حتى اليوم هي للنحات المصري القديم "بيك"، وهو النحات الرسمي للملك أخناتون، كما يقال إنه المسؤول عن تحفة وجه نفرتيتي، لكنه وبشكل أقل ملكية نحت بورتريه لذاته بجانب زوجته (نحو 1345 ق.م) داخل إطار حفرت جوانبه بالكلمات، كلاهما لا يملك ملامح شديدة التميز، أو على الأقل في النسخة التي نجت وأتيح لنا رؤيتها، ولا يسهل التأريخ المتواصل بعد تلك اللحظة.
نحات الملك أخناتون "بيك" بجانب زوجته (مواقع التواصل) |
قداسة السيلفي
في العصور الوسطى -على سبيل المثال- لم تكن الصورة الذاتية نوعا فنيا مستقلا، بل كان يحمل مكانة دينية وروحية.
في كتابه "الصورة الذاتية.. تاريخ ثقافي" يدرس جيمس هول تطور الصورة الذاتية، وفي حديثه عن العصور الوسطى وطبيعتها الدينية يشير إلى الأسطورة القائلة إن قديسة تدعى فيرونيكا قابلت السيد المسيح في طريقه إلى مكان صلبه، فقدمت له وشاحها لكي يمسح عن وجهه دماءه وعرقه، فانطبعت ملامحه على الوشاح، فأصبح هناك اعتقاد قائم بأن هذا هو البورتريه الذاتي الأكثر قداسة، فهو قادم من المسيح ذاته، قطعة قماش الكتان موجودة ويصدق البعض أنها وجه المسيح فعلا والبعض الآخر يعتقد أنها اختلاق حدث في العصور الوسطى.
في ظل قداسة تلك الفكرة عن تصوير الذات، صوّر بعض فناني العصور الوسطى ذواتهم داخل أعمالهم، منهم القديس دانستان، فعلى كتاب كتبه عن قواعد اللاتينية رسم شخص المسيح وبجانبه رسم صورة لنفسه خاضعا يدعو ويتوسل.
يمكن تتبع الصور الشخصية بشكل أوضح في عصر النهضة الهولندي والألماني وكذلك الإيطالي، حيث أصبحت الصورة الذاتية أحد أنواع الفن بجانب البورتريه والمنظر الطبيعي والطبيعة الصامتة، ويمكن تأريخ أول لوحة زيتية لبورتريه ذاتي بتاريخ 1433 لجان فان آيك، وبعده طوّر الألماني ألبرخت ديورر النوع، وصنع لوجهه عدة بورتريهات بخامات متنوعة.
في عصر النهضة الإيطالي لم تكن الصورة الذاتية بالوضوح ذاته، بل كان من الشائع أن يخلد الصانع نفسه وسط الجموع. مازاشيو يصبح أحد تلامذة يسوع، ومايكلانجلو يستخدم وجهه في رسم إحدى شخصيات جداريته العملاقة على سقف كنيسة السيتستين.
مرورا بالعصور الفنية بعد النهضة، استمرت عادة رسم الذات، سواء بشكل مستقل أو في جماعات، لكن يمكن اعتبار النهضة الحقيقية لفن الصورة الذاتية هي في القرن 19.
كل فناني القرن 19 تقريبا مارسوا رسم الصورة الذاتية، بل اختار البعض النوع كشكل أساسي في التعبير عن الذات، مثل فينسنت فان جوخ الذي رسم 37 صورة ذاتية اعتبرت سجلا لتطورات إمكاناته الفنية، بالإضافة إلى تسجيل حالته النفسية والجسدية.
يمكن تأريخ أول لوحة زيتية لبورتريه ذاتي بتاريخ 1433 لجان فان آيك (مواقع التواصل) |
اختراع التصوير
هناك تغير مهم يمكن لمسه في نهايات القرن 19، وهو اختراع الفوتوغرافيا وهو ما صنع تغيرا كبيرا في فن الرسم وطبيعة رؤية الفنان لذاته وللعالم.
وأصبحت هناك آلة قادرة على نقل الواقع كما هو، فأضحى الفن أكثر فرادة وأسلوبية.
في الفوتوغرافيا أيضا اهتم كثير من الممارسين بالصورة الذاتية، ويمكن إرجاع أول صورة ذاتية إلى عام 1839، وتنسب لروبرت كونيليوس، وهي بمنظور عصرنا الحالي تصبح أول "سيلفي".
بسبب سيطرة الفوتوغرافيا على تمثيل الواقع جاء فن القرن العشرين مختلفا عما قبله، فأصبح من الممكن أن نرى صور شخصية سريالية مثل فريدا كالو، ويمكن أيضا رؤية الاختلاف إذا تتبعنا كيف كان الإسباني الشهير بيكاسو يرسم نفسه، فبدأ بشكل واقعي حتى انتهى إلى رؤيته التكعيبية.
وفي عام 2013 أضاف قاموس أوكسفورد كلمة "سيلفي" بشكل رسمي، وهي تعني الصورة التي يأخذها الشخص لذاته، وبسبب سهولتها الحالية أصبحت تحمل معاني أخرى غير تخليد الذات.
وأصبح المحللون ودارسو علم النفس منشغلين على الدوام بربط فكرة السيلفي بالنرجسية. وبسبب انفتاح المعلومات أصبحنا في بحر من الصور الذاتية وغير الذاتية.
يمكن تبني وجهات نظر متعددة حول الظاهرة، كما يمكن اعتبارها إعجابا زائدا بالنفس، ورغبة في الحصول على القبول الرقمي، أو يمكن اعتبارها وسيلة لمشاركة الذات مع العالم.
المصدر : الجزيرة