يقولون إن "هناك صوراً كاريكاتورية تجسّد شخصية "المسيح"، ولا تثير غضب المسيحيين، بينما إذا تم تصوير "النبي محمد" تثور مشاعر المسلمين، وهذا يعني، كاستنتاج سريع، أن المسلمين متخلفون ولا يحترمون حرية الفن والإبداع.."!
في الحقيقة هذا الكلام فيه مغالطة لا تراعي الفوارق الشعورية بين العقيدتين، ففي المسيحية ليس هناك مشكلة مع فكرة التجسيد، بل إن تصوير المسيح هو من صلب العقيدة المسيحية، بينما في الإسلام تكتسب شخصية النبي قداسة متعالية عن التجسيد، وبصرف النظر عن مدى منطقية هذه الفكرة، فالمشاعر الدينية ليست قابلة دوماً للمحاكمة العقلية، ولا يجب أن تطالب الناس بالتخلّي عن مشاعرهم دفعةً واحدةّ، تحت حجة أنها مشاعر غير عقلانية وتعيق الحريات الشخصية.
مبدئياّ، من حق أي إنسان أن يعبّر عن رأيه تجاه أي فكرة دينية بالشكل الذي يريد، ولا يوجد أي قيود قانونية يمكنها الحد من مساحة الإبداع، بحجة مراعاة مشاعر الآخرين، هذا من الناحية الدستورية، غير أن هذه الحرية هي حرية تشتغل في منطقة خطرة، ونتائجها مدمّرة على الصعيد المدني، وتمثل تهديداً للاستقرار المجتمعي والسّلم الأهلي بشكل عام.
من حق أي إنسان استخدام فكرة الله، أو شخصية النبي، والاشتغال عليها بأي صورة إبداعية وتحويلها لأثر فني محسوس، رسماً أو شعرًا أو بتقنية سينمائية، وكافة أشكال التعبير الإبداعي، غير أن هذه الحرية -وإن كانت حقًا أصيلًا- لكنها تحمل دلالة عبثية، حين تكون مقصودة بذاتها، وبدوافع تحريضية، هدفها استفزاز الحساسية الدّينية للآخرين.
"إنّ الاستخفاف بفكرة الله أو النبي وتحويلها إلى كاريكاتور لئن كانت بوجه ما ضرباً من الفنّ ناجماً عن حرية تعبير علينا احترامها دائماً لأنّها حق دستوري، فإنّه في نفس الكرّة تهديد مباشر لسلم الأخلاقية بين الناس، ومن ثمّ يمكن أن يعرّض الحياة المدنية كلها إلى خطر الحرب الأهلية. "وليست كلّ الحروب الأهلية سيّئة، فبعضها ضروري لتحقيق الحرية التاريخية للشعوب"، يقول الفيلسوف التونسي، فتحي المسكيني، هذه الفكرة، في معرض تشريحه لقضية الإساءة للآلهة والمقدّسات، ويخلص لنتيجة تؤكد أن الموازنة بين الحرية الشخصية/الحق في السخرية، وبين احترام المقدّسات لا يمكن حسمها بالمنطق "السلفي" ولا "العلماني".
بإمكان أي إنسان الإساءة لله أو النبي ولا يوجد بطولة في ذلك، إذ لا قيمة لأي ممارسة إبداعية لا تحقق ذاتها، إلا في المساحات المحظورة، إنها لا تعكس بالضرورة ممارسة إبداعية أصيلة، بقدر ما تعتاش على طبيعة المواضيع المثيرة لحساسية الناس، وهو ما يشكك بحقيقة قيمتها الإبداعية الذاتية.. إذْ كيف يمكننا الدّفاع عن الحرية الإبداعية المطلقة، لمبدع لا يرى إمكانية إبداعه إلا في هذه المنطقة..؟!
من جانب آخر، نحن نعيش مرحلة منفلتة، حيث المجتمعات دخلت مرحلة التجريب المفتوح لكل مساحات الحرية الشخصية، وكأنّ الإنسان يتصوّر ذاته كائناً يعيش في كوكب لوحده، ومن حقه ممارسة كل هواجسه الخيالية، وبشكل علني، دون مُراعاة لارتداداتها العامة، وما يمكن أن تتركه من جروح في نفسية الآخرين، ممن يرون أن حريته تزعج ضميرهم العميق، وتنال من أسمى الرمزيات المقدّسة في أذهانهم.
لا توجد صيغة جاهزة لحل هذه المعضلة، حيث التنازع بين تيار يرغب بممارسة حريته المطلقة، وهدم كل المقدّسات، تحت مبرر الحق الكامل في قول ما يشاء حول أي فكرة، وتيار يريد ضبط مساحة الحرية بحُجة عدم تجاوز المقدّسات والإساءة للمعتقد، غير أن حاجتنا لصيغة متوازنة تخفف حدة الصراع هذا، يتطلب إقراراً متبادلًا بحاجتنا لتنازلات ذاتية؛ خدمةً للحياة المدنية، وليس بالضرورة دفاعاً عن مقدّس مُعيّن، أو تنازل عن حُرية أصيلة.
نحتاج لمنطق الالتزام الأخلاقي الذاتي، من الجانبين، فلا "السلفي" يملك الحق بمنع الآخرين من تناول المقدّسات كما يشاءون، ولا العلمانية المنفلتة تملك الحق باستباحة العقائد والأديان والسخرية منها دون أن تتحمّل مسؤوليتها عن تداعيات ما سيحدث.
فالتيار السلفي ليس مخولاً بالدفاع عن الله والنبي من منطلق قانوني، ولا يملك حق الوصاية الإلهية في منع البشر من التعبير عن تصوراتهم الخيالية تجاه الغيبيات، والتيار العلماني لا يعيش في جزيرة معزولة عن بقية البشر، بحيث يمنح نفسه الحق المطلق في هدم المقدّس، والعبث المفتوح بعناصر الاستقرار في المجتمعات.
الخلاصة: إن مشكلة الحرية وحدودها ومعايير ضبطها هي أخطر قضية تواجهها كل المجتمعات، وهي قضية شغلت العقل الإنساني منذ الأزل، ولا يمكن التوصل فيها إلى حلول حاسمة، باستثناء تعزيز فكرة المسؤولية الذاتية بجانبها، كضابط داخلي للحد من أخطار الحرية.
أما بخصوص الصراع في فرنسا، تخلّت الدولة عن دورها في ضبط التوازن في المجتمع، وبدلا من معاقبة المتطرف وحماية الحرية في الوقت نفسه، ذهبت تنحاز لطرف مُعيّن، وبما يغذّي التطرّف أكثر، فالانحياز لفكرة الإساءة للأديان ليس حماية للحرية، بل تشجيع لمهدداتها.