هنا عدن | مقالات
بقلم | عادل دشيلة
مرّت تشيلي، بمرحلة دموية وخاصة بين عامي 1973-1990 قضت على التعددية السياسية وأدخلت البلد في نفق مظلم من خلال التصفيات السياسية، والتعذيب، والقتل خارج إطار القانون.
ولست هنا بصدد تحليل تلك الحقبة في تشيلي-البلد الذي أصبح اليوم ضمن الاقتصاديات القوية في دول أمريكا الجنوبية، ولكن وقبل أن أبدأ بتقديم الملاحظات والإنطباعات التي دونتها في زيارتي الأخيرة المخصصة للإطلاع على تجربة تشيلي في المصالحة والعدالة الإنتقالية بعد الحقبة السوداء التي مرت بها، أريد أن ابدأ بمقدمة عن تلك الحقبة السوداء ومن ثم الحديث عن تجربة تشيلي في مجال العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وكيف تحولت هذه الدولة والواقعة غرب أمريكا الجنوبية على ساحل المحيط الهادئ إلى دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، ومركز تجاري واقتصادي هام، ناهيك عن نجاحها الباهر في المجال الزراعي على الرغم من شحة مواردها المائية.
وبالعودة إلى موضوعنا الرئيسي، فقد أصبح الرئيس اليساري المنتخب، سلفادور أياندي- والذي بالمناسبة هو أول رئيس دولة ذي خلفية ماركسية في دول أمريكا الجنوبية يصل إلى السلطة عام 1970 بطريقة ديمقراطية نزيهة، وعلى الرغم من محاولاته لدعم الطبقة الكادحة في بلاده، إلا أنّه واجه عدة تحديات داخلية وخارجية. واستغل الجيش الاضطرابات الاقتصادية حينها والخلافات السياسية، وقام بشن هجوم جوي على القصر الرئاسي بالطائرات، بالإضافة إلى الهجوم البري بهدف قتل الرئيس المنتخب. ولكن، الرئيس المحاصر في القصر لم يستسلم للجيش. وبحسب روايات الكثير من التشيليين، أنّه بعد أن أدرك الرئيس أن قادة الانقلاب يدقون أبواب القصر الرئاسي انتحر حفاظًا على رمزية وشرف وكرامة موقعه كرئيس منتخب من قبل الشعب. وبعد نجاح الانقلاب، تولى العسكر بقيادة أوغستو بينوشيه رئاسة الحكم، وغادرت عائلة الرئيس سلفادور أياندي ومن ضمن العائلة ابنته، والتي كانت طبيبة ومساعدة لوالدها، توجهت إلى هافانا وهناك ماتت كمدًا وقهرًا.
وبعد أن نجح الانقلاب، بدأ البطش بالحزب الشيوعي وحركات اليسار بشكل عام، فكان يتم إلقاء القبض حتى على الأجانب وكل من له علاقة بالحزب الشيوعي أو حركات اليسار. وألحق هذا الانقلاب بقيادة بينوشيه الأذى بالشعب حيث راح ضحية ذلك عدد كبير من الضحايا ولا يمكن حصرهم سواء من القتلى، أو المخفيين قسرا، والمفصولين من أعمالهم، والمشردين، والسجناء والمنفيين وغيرهم، وهناك أرقام لدى المؤسسات التشيلية حول عدد الضحايا، ولكن لا يستطيع كاتب هذه السطور أن يحددها نظرًا لعدم قدرته على الوصول إلى البيانات الدقيقة.
ومن ضمن الآليات التي تم استخدامها لإعدام السياسيين المحاكمات السريعة، وأخذ بعضهم على طائرات هيلوكبتر وطعنهم بالخناجر والسيوف ومن ثم ربطهم على خشب سميك مثل تلك الأخشاب التي تستخدم في السكك الحديدية للقطارات، وربطهم في تلك الأخشاب ورميهم من المروحيات إلى عمق المحيط الهادئ، وكان الهدف من ربطهم على تلك الألواح الخشبية السميكة حتى لا تطفو الجثث على الماء ومن ثم تجرها أمواج المحيط إلى السواحل.
وتم فتح السجون السرية والمعلنة، حيث تم فتح ملعب خوليو مارتينيز برادانوس في سانتياغو للسجناء. وهناك تقارير تشير إلى أن أكثر من 40 ألف شخص قضوا وقتًا في هذا المجمع الرياضي أثناء حكم المجلس العسكري. وبحسب ما سمع كاتب هذه السطور من أحد الناجين من هذا المعتقل، بأنه كان يتم وضع ما يقارب 200 إلى300 فرد في كل غرفة مع أنّها لا تتسع سوى لعدد قليل بما لا يتجاوز 20 فردًا. وكانت هذه الغرف مظلمة تحت مدرجات المعلب وبدون كهرباء، ولا يوجد فيها سوى حمام واحد في كل غرفة وبدون باب، ولا يستطيع السجناء النوم، بحسب ما رواه أحد الناجين من هذا السجن الكئيب. كما تم حتى سجن أكثر من ألف امرأة ووضعهن في حمامات السباحة وغرف تغيير الملابس الخاصة بالملعب وتم اعدام بعضهن لاحقا، والبعض الآخر خرج بعد زوال الانقلاب وجزء آخر لا يعرف مصيره حتى الآن.
وكانت فيلا جريمالدي من أهم مجمعات الاستخبارات الوطنية DINA العديدة التي كانت تستخدم لاستجواب وتعذيب السجناء السياسيين، وتقع على أطراف العاصمة التشيلية تحت جبل شاهق مطل على المدينة. وكذلك، لندن 38 في قلب العاصمة وهو مبنى استخدمه مديرية DINA كمركز اعتقال وتعذيب لمعارضي دكتاتورية بينوشيه. وكذلك منزل لعالم اجتماع برازيلي، استخدمته السفارة البنمية لتجميع اللاجئين السياسيين التشيليين الذين طلبوا اللجوء من بنما ولكن استولى عليه جهاز DINA، وبدأ بالتصفيات، بل من جلافة أعضاء هذا الجهاز الاستخباري أنه قام بقتل امرأة ومن ثم رميها في حوش السفارة الإيطالية. وأيضًا، تم فتح المئات من السجون ومراكز التعذيب في مقاطعات البلاد يصعب حصرها. ولم يكن هناك احترام لا لحقوق الناس ولا للقانون الدولي. وأمّا أنواع التعذيب الأخرى والقتل خارج إطار القانون فحدث عن ذلك ولا حرج.
ولكن، كان لا بد لتلك الحقبة الدموية التي جثمت على صدر الشعب التشيلي لسبعة عشر عامًا أن تنتهي في مطلع تسعينات القرن الماضي. ونجحت تشيلي بفضل وجود نخبتها السياسية الواعية وتحقيقها للعدالة والمصالحة للتخلص بشكل كبير من آثار حقبة الانقلاب السوداء. بل وتم حتى ملاحقة قائد الانقلاب وسجنه في بريطانيا خلال زيارته للأخيرة في 1998 ومن ثم تم الافراج عنه بعد مطالبة الحكومة التشيلية بتسليمه، لأن الذي رفع الدعوى ضده في بريطانيا هو قاضي اسباني، والذي اتهم بينوشيه بقتل تشيليين من أصول اسبانية، ولهذا غضبت الحكومة التشيلية من هذا الإجراء وطالبت بتسليمه إلى تشيلي وهو ما تم في النهاية.
وحاليا، أصبحت تشيلي من ضمن البلدان التي يُضرب بها المثل في مجال تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
وما تزال جهود الدولة مستمرة حتى كتابة هذه السطور لتثبيت مدامك الديمقراطية ومبدأ العدالة الانتقالية على الرغم من النجاحات التي تحققت بشكل كبير، حيث نجحت الدولة في حفظ الذاكرة الوطنية من خلال تحويل سجون الانقلاب إلى مراكز وطنية أو ما يشبه المتاحف لتكون شاهدة على بشاعة الانقلاب، وتم تجميع كل ما له علاقة بالإنقلاب من وثائق وصور وغيرها وأرشفتها لتكون شاهدة أيضا على تلك الحقبة السوداء. وأمّا مقبرة سنتياغو العامة فيوجد فيها النصب التذكاري للمفقودين- وهو جدار تذكاري يقع عند مدخل المقبرة لإحياء ذكرى 3000 شخص اختفوا أو قُتلوا في أعقاب الانقلاب. وتم بناء سجن خاص لمنتهكي حقوق الإنسان من قادة الجيش والأمن- وفي هذا السجن هناك من لا يزال يرفض الاعتراف بالجرائم التي تم ارتكابها على الرغم من الأحكام القضائية بحقهم- والتي قضت بسجنهم مدى الحياة، لكنهم يرفضون حتى مجرد الإدلاء بمعلومات ولو بسيطة عن تلك الحقبة السوداء.
وقامت الدولة ببناء مؤسسات تهتم برعاية أسر الضحايا، وبناء أرشيف كبير يحفظ كل حقوق الضحايا سواء المخفيين قسرًا، أو المنفيين، أو القتلى، وتعويض أسرهم من خلال تأمين صحي شامل مدى الحياة، ومنح دراسية، وتخليد ذاكرتهم وتجميع سيرهم الذاتية ونشرها في كتب. ناهيك عن بناء مؤسسات أخرى مثل تلك التي تهتم بأسر قتلى الانقلاب، إلخ. وسيتطرق المقال القادم لمراحل بدء العدالة الانتقالية وآليات تنفيذها.