تطل علينا من اليمن مجموعة من المفارقات والمشاهد الباعثة على التأمل والاستبصار والتساؤل والحيرة، والجديرة بالبحث والتناول من قبل كل ذي بصيرة.
ففي الوقت الذي تكاد فيه العملية السياسية أن تتجه نحو الانفراج بانتهاء أعمال مؤتمر الحوار الوطني وشعور كثير من المواطنين بأنهم قادمون على يمن آخر مختلف شكلا وربما مضمونا عن يمن ما قبل 2011 يأتي القرار الصادم للجنة الأقاليم التي يرأسها رئيس الجمهورية بإغلاق الخيارات جميعها واختصارها في خيار واحد هو خيار الأقاليم الستة التي يبدو أن الرئيس قد حسم أمره عليها نتيجة لتعايشه مع المنادين بها ولكونه (أي خيار الستة ألأقاليم) يأتي ملبيا لطرفي تحالف حرب 1994م الذين اختلفا في كل شيء وتحاربا على كل شي وقصف بعضهما بعضا بالصواريخ والمدفعية لكنهما لم يختلفا ولن يختلفا قط عندما يتعلق الأمر باستمرار بسط قبضتهما على الجنوب وثرواته وموارده ومصيره السياسي، وربما انحاز الرئيس (الجنوبي) إلى خيار الستة الأقاليم لأنه نفسه (أي الرئيس) جزء من تحالف 1994م فهو وزير دفاع الحرب على الجنوب، وهو المشارك الفعلي في سياسات ما بعد الحرب كنائب رئيس الجمهورية وممثل (ملفق) للجنوب في رأس السلطة.
لم يتحرر عبدربه منصور بعد من عقدتين رئيسيتين تسيطران على كيانه الذهني الداخلي حتى وقد أصبح رئيسا لكل اليمنيين، العقدة الأولى شعوره بالانتماء إلى الطرف المهزوم في 1986، في ثنائية الزمرة والطغمة (المقيتة) التي تحرر منها كل الجنوبيين إلا عبدربه منصور الذي ما تزال تسيطر على هاجسه، والعقدة الثانية هي موقعه في حرب 1994م كقائد فعلي في هذه الحرب فاق دوره فيها دور علي محسن وعلي عبد الله صالح وجماعات الجهاد الأفغانية التي أتت لدحر "النظام الكافر" الحاضنة المبكرة لعبدربه منصور هادي.
قرار السيد الرئيس بفدرالية الستة الأقاليم جاء صادما للجنوبيين الذين راهن الكثيرون منهم بأن إكثار الرئيس من الحديث عن القضية الجنوبية سيجعله يتبصر في البحث عن حل أقرب إلى العادل لهذه القضية، وذلك بإقرار نظام الفيدرالية بإقليمين بين شريكي الوحدة الفاشلة التي كان لعبدربه منصور دورا رائدا في إفشالها بقيادته للحرب الهمجية على الجنوب عام 1994م.
لكن قرار الستة الأقاليم جاء ليؤكد أن كل ما قاله الرئيس عن القضية الجنوبية ليس إلا استدرارا لعواطف الجنوبيين ورهانا على استغفالهم ولم يعلم الرئيس أن الجنوبيين مؤمنون و"المؤمن لا يلدغ من نفس الجحر مرتين".
والمدلول الوحيد لقرار الستة الأقاليم هو النية الثابتة على إفراغ القضية الجنوبية من مضمونها وتحويلها إلى موضوع جغرافي، وإبقاء هيمنة مراكز القوى في التحكم بمصير البلد كلها والجنوب على وجه الخصوص، وسيحتاج الرئيس إلى قوة خارقة وأسطورية لإقناع المواطنين الجنوبيين بجدوى الستة أقاليم (أي تقسيم الجنوب إلى إقليمين) هؤلاء المواطنين الرافضين أصلا للدولة الاتحادية ولو بإقليمين والمتمسكين بإصرار على مطلب استعادة دولتهم بعد أن اثبت المنتصرون في حرب 94م أنهم غير مستعدين للتخلي عن غنائمهم التي حققوها بفضل نهب الجنوب ورغبتهم الجامحة في استمرار نهج النهب والسلب حتى بعد فشل مشروع الضم والإلحاق وإثبات عجزه عن الاستمرار في فرض سياسة الأمر الواقع على الجنوب.
* * *
في الملف الأمني تتواتر الأحداث على نحو يؤكد أن الأجهزة الأمنية التي يقصف قواتها مناطق الضالع وعبد الله غريب وغيل بن يمين ومناطق مختلفة في وادي حضرموت بالمدفعية والطيران، ويتلصص مخبروها على النشطاء السياسيين بما في ذلك بعض الوزراء (من غير تحالف 1994م) لا تأبه لما يفعله المخربون الحقيقيون، فيأتي تفجير السجن المركزي وتهريب عشرين سجينا من المحكومين في قضايا ارهاب، ليؤكد أحد أمرين: إما أن هؤلاء السجناء يحظون برعاية وتعاون من بين القائمين على السجن ومصلحة السجون اليمنية ومن الأجهزة الأمنية المختلفة، وهو الأمر الذي تجلى في حصولهم على الأسلحة والملابس العسكرية التي هربوا بها، وتأمين الطرقات والمعابر لهم حتى وصلوا المكان الآمن الذي خطط لهم الوصول إليه، وإما أن قادة الأجهزة الأمنية مشغولون بكل شيء إلا حماية الأمن والتصدي للإرهاب، الأمر الذي مكن هذا العدد من تنفيذ هذه الخطة المتقنة دونما أي مقاومة تذكر.
لم تستطع أجهزة الأمن بمختلف مسمياتها التي تفوق أصابع اليدين أن تتابع مخطط الهجوم على السجن المركزي مثلما لم تستطع متابعة خطط الهجوم على مجمع وزارة الدفاع ولا الهجوم على المنطق العسكرية الشرقية، لكن جنود هذه الأجهزة الأشاوس كانوا في كامل يقضتهم في اعتراض وزير الشئون القانونية وإيقافة وهو عائد من مقابلة مع قناة الجزيرة والتلذذ بإهانته وسلب مرافقيه سلاحهم الشخصي المصرح به من وزارة الداخلية، عقابا له لحديثه عن مشروع العدالة الانتقالية ومشروع قانون استعادة الأموال المنهوبة، وهو ما يبين فعلا أن اليمن تحكم بعدة دويلات مصغرة داخل الدولة الفترضة التي تفشل حتى في إيصال الماء والكهربا لمواطني العاصمة، ناهيك عن بقية المدن والأرياف التي تنعدم فيها أبسط معايير الحياة العصرية، من مياه نقية وكهربا وخدمة طبية وتعليمية وحياة أمنية وإدارية ولو في مستوياتها الدنيا.
المشهد الأمني (والدفاعي أيضا) يكشف لنا مدى فضفاضية وزئبقية الحديث عن إعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن، واقتصار هذه الإعادة للهيكلة على تغيير القيادات ونقل مواقع بعضها فقط أما الهيكلة الحقيقية فلم تتم ويبدو أنها لن تتم في القريب (العاجل أو الآجل) طالما بقي مستشارو رئيس الجمهورية منشغلين بالضغط على رئيس الجمهورية لتعيين أنصارهم وحبايبهم على رأس الأجهزة والوحدات والألوية العسكرية والأمنية، وستظل هذه الأجهزة مجرد "ديمة قلبنا بابها" كما كان يقول أهل صنعاء بعد فشل الجمهورية في الأتيان بشيء جديد بعد الإطاحة بالإمامة ونظامها.
لا يؤشر المشهد السياسي والأمني في اليمن على أن البلد قادم على استقرار وهدوء (دعك من التنمية والنهوض والعدالة والدولة المدنية) ذلك إن كل يوم جديد يأتي ومعه الكثير من عوامل الإحباط ومؤشرات الفشل، ومع ذلك يظل الرهان على إرادة وصبر هذا الشعب العظيم الذي قاوم الطغاة والغزاة وأسقط المستبدين وتصدى للعتاولة وأنجب الأباة والشهداء والقادة الأبطال، هذا الشعب الذي يكتوي بنيران المعاناة والفقر والعوز والحاجة والأوبئة، ويقابلها بابتسامة المتفائل المؤمن بحتمية التغيير وأزلية موت القديم الشائخ وإشراق الغد الأبهى والأزهى والأنقى.
برقيات:
* سأتناول في هذه البرقية وسلسلة برقيات قادمة مجموعة من الأخطاء اللغوية والإملائية التي يقع فيها مثقفون وبعض من حملة شهادات الدكتوراه، ونطالعها كل يوم في الصحف والمواقع الإلكترونية، مما يدل على أن لغتنا الجميلة لم تعد تحترم كما ينبغي وإلا لسقط هؤلاء في امتحان الدكتوراه بل في امتحان الثانوية العامة (إن كانوا يحملون شهادتها).
* منذُ : كثيرا ما تكتب هذه الكلمة ومن قبل الكثير من الكتاب والمثقفين بهذه الصيغة الخاطئة (منذو) والمأساة أن بعضهم يضيف لها ألفا ويكتبها (منذوا) وأصل الكلمة (منذُ) حرف جر مبني على الضم أو ظرف في محل نصب، والمهم أن هذه الكلمة لا تحتوي على أي (واو) وإنما الجهل يجعل البعض يضيف لها واوا بلا مبرر.
* يقول الإمام الشافعي عليه رحمة الله:
بَلَوْتُ بَـــني الدُّنــــيا فَلَمْ أَرَ فِيهمُ سوى من غدا والبـخلُ ملءُ إهابهِ
فَجَرَّدْتُ مِنْ غِمْدِ القَنَاعَة ِ صَارِماً قطـــــــــــعتُ رجائي منهمُ بذبابهِ
فلا ذا يرانـي واقـــفاً في طريـقهِ وَلاَ ذَا يَرَانِي قَاعِداً عِـــــــــــنْدَ بَابِهِ
غنيٌّ بلا مالٍ عن النَّاس كلَــهم وليس الغـنى إلا عن الشيء لا بهِ