رغم ان وثيقة مؤتمر الحوار الوطني تضمنت إطارا عاما لهيكل السلطة المركزي في الدولة الاتحادية بمستوياته الأفقية الثلاث: السلطة التشريعية المتكونة من مجلس النواب والمجلس الاتحادي والجمعية الوطنية، والسلطة القضائية التي تتألف بدورها من المحكمة الدستورية العليا ومجلس القضاء الأعلى، والقضاء الإداري.. فيما أقرت الوثيقة ان يكون نظام الحكم رئاسيا، ما يجعل رئيس الجمهورية بذاته رئيسا للحكومة وتقع عليه مسؤولية اختيار أعضائها .. بخلاف ذلك لم تتضمن الوثيقة هيكلية السلطة في المستويات الأخرى للدولة الاتحادية من أقاليم وولايات ومستويات محلية أدنى، لتترك الأمر للدستور الاتحادي و لقوانين الأقاليم.
تختلف هيكلية الدولة الاتحادية من دولة لأخرى، فبعضها تنص دساتيرها على بنية ومؤسسات الأقاليم والولايات والمديريات، فيما أخرى تترك الأمر لقانون الأقاليم والتشريعات اللاحقة.. وتمثيلا للحالة فالدستور الاتحادي الهندي يحوي تفصيلا بأكثر من خمس وثمانين مادة لشكل ووظيفة الكيانات الإقليمية التنفيذية والتشريعية والقضائية، فيما دساتير دول فيدرالية أخرى تنص فقط على إقامة حكومات محلية فقط، وتترك مهمة تحديد شكل وكيفية إقامة المؤسسات الإقليمية إلى الحكومات الإقليمية، بحيث تمتلك الاقاليم سلطة كتابة دساتير أو قوانين للأقاليم شريطة عدم تعارضها مع الدستور الاتحادي، باستثناء (جنوب أفريقيا) التي اجترحت تجربة متفردة حينما وضعت دستورا (قانون أول) للأقاليم إن اختار احد الأقاليم عدم وضع دستوره الخاص.. وهي خطوة ثبتت نجاعتها ، إذا أن إقليما واحدا فقط من الأقاليم التسعة المكونة لجنوب أفريقيا وضع دستوره الخاص... هكذا معالجة توفر الجهد والوقت، وتصلح تماما حينما تتماثل طبيعة وموارد الأقاليم، لكن عندما تشهد الأقاليم اختلافات شاسعة، يغدو من الأفضل قيام كل إقليم بسن قانونه الخاص وهيكليته الملائمة...
في اليمن يبدو ان الأمور تسير باتجاه المزج بين التجربتين الهندية والجنوب أفريقية.. إذ أن قرار رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة إعداد الدستور، تضمن ان يعهد لذات اللجنة مهمة إعداد قانون للأقاليم ، ومن نافلة القول ان الدستور وقانون الأقاليم هما من سيرسما طبيعة الهياكل وأجهزة السلطة في المركز والأقاليم، ومثلما سيكون للمركز سلطة تشريعية وتنفيذيه بهياكلها ومؤسساتها الخاصة بها، سيصبح لكل إقليم هياكلها الملائمة لسلطتيها التشريعية والتنفيذية، في حين ستتعمق المغايرة في طبيعية هيكلية وبنى الحكم في المستويات الحكومية الأدنى من ولايات (محافظات) ومديريات، حيث تتقلص السلطة التشريعية والتنفيذية لتنحصر في الأمور المتصلة بالخدمات المباشرة للمواطنين، ما يفرض وضع هيكلية ثالثة ورابعة لهذين المستويين.. وهنا يمكن الاعتماد على قانون السلطة المحلية رقم (4) لسنة 2000م في تصميم أجهزة وهياكل السلطة في الولايات (المحافظات ) والمديريات، مع إجراء تعديلات ضرورية تضمن ان يكون لكل ولاية مجلس بلدي منتخب ومجلس محلي للمديرية، يتمتعان بسلطة اتخاذ القرارات المتصلة بالشأن المحلي ويمارسان الرقابة والإشراف على الأجهزة التنفيذية.. فمنظومة اللامركزية الإدارية في اليمن كانت تجربة متفردة، وما أصابها من عثرات لا يمكن عزوها الى القانون، إنما إلى عدم جدية القيادة السياسية حينذاك في الانتقال الحقيقي الى اللامركزية الادراية.
المغايرة في طبيعة هيكلية السلطتين التشريعية والتنفيذية في مستويات الدولة الاتحادية أمر طبيعي، باعتبار ان وظائف المركز تختلف عن وظائف الأقاليم عن وظائف المستويات الحكومية الأدنى .. بيد أن الأمر ليس كذلك فيما يتصل بالسلطة القضائية، إذ ان تجارب عديد دول تنحو باتجاه وضع نظام قضائي موحد للدولة بكافة مستوياتها ، بغية اتساق ووحدة المعايير القضائية، فهو كالنظام الانتخابي الذي ينبغي ان يكون موحدا كونه يتصل بمبادئ عامة، ويؤثر في الوقت ذاته على الدولة بكافة مستوياتها.. باستثناءات محدودة كما في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول التي لا زال الإرث الثقافي للقضاء الإنجلوسكسوني طاغيا عليها..