كما حظيت خطوة انضمام اليمن الى منظمة التجارة العالمية في 26 يونيو الشهر الجاري بتأييد محلي من قبل البعض في المجتمع ممن يرون انها طوق النجاة لإنقاذ الاقتصاد اليمني من التدهور ، نرى ان هذه الخطوة يقابلها البعض بالتشاؤم ممن يرون انضمامها كان ينبغي ان يسبقه بناء دولة قوية قادرة على الايفاء بالالتزامات وحماية الصناعات المحلية غير القادرة على البقاء في سوق المنافسة المتوقع.
مبعث حالة التفاؤل لدى الكثيرين هو ان الانضمام خطوة جادة سينشط حركة السوق التجارية وسيخلق مناخات تجذب الاستثمار ، وسيخلق سوق عمل لامتصاص البطالة التي تصل نسبتها في بلادنا إلى 40% من تعداد السكان، اما المخاوف التي تسيطر على هاجس البعض تتمثل في ان الانضمام في سيؤثر سلباً في ضل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد ويجب على الحكومة القيام بإصلاحات اقتصادية.
ورغم ان بعض المخاطر قد تم التعامل معها خلال فترة المفاوضات التي استمرت 14 عام، إلا ان اليمن بوضعه الحالي لازال امام معترك صعب للتعامل الأمثل مع النتائج التي ستفرزها خطوة الانضمام، يفترض انه قد قام بدراسة الآثار الايجابية والسلبية المتوقعة من الانضمام لتحديد المخاطر وكيفية مجابهتها ، ورسم الخطط الفاعلة للتعاطي الافضل مع واقع النظام الاقتصادي الجديد الذي أصبح الانخراط فيه أمر واقعاً ومفروضاً على الدول النامية.
ان الاستفادة من تجارب الآخرين ودراسة النجاحات وأسباب الإخفاقات، والمعضلات التي واجهت بعض الدول النامية قبل وبعد الانضمام، بات امراً ضرورياً لتقليل الآثار السلبية المتوقعة؛ وعلينا الادراك الجيد ان التحولات الاقتصادية التي شهدتها دول العالم خلال الربع الاول من القرن الماضي، دفعهتا لتتجه لوضع منهجاً جديداً يكسر جمود "النهج القديم" تتهاوى فيه حدود الدولة القومية، ليعلن بذلك عن ميلاد منظمة التجارة العالمية في 1995م، بعد ان وضعت المفاهيم التي روّجت لها ولازلت تروج لها لتكون نظرياً الحاملة لها، بوصفها نظرية "التغيير الاقتصادي العالمي" واهم مفاهيم هذه النظرية :العولمة (الليبرالية الجديدة)، وقوانين السوق الحر.
ولئن الدعوى إلى أي نظام جديد ، تصاغ في إطار مفاهيمي، يستهوي عادة البسطاء من الناس (ظاهرياً) لكن قد يخفى النوايا والأهداف لأصحاب المصالح الحقيقية، الذين توافقوا على إطلاق مصطلح (الليبرالية الجديدة) للدلالة على الطور الجديد وحامل التغيير (الجدي) للنظام الاقتصادي العالمي (الجديد).
فالليبرالية الجديدة، بوصفها نظرية وممارسات اقتصادية سياسية، ترى أن رفاه البشرية رهن إطلاق حريات مشروعات الأعمال الفردية، داخل إطار مؤسسي يتميز بأنه يدعم بقوه حقوق الملكية الخاصة والأسواق الحرة، والتجارة الحرة، وإن دور الدولة هنا مقصور على خلق ورعاية الإطار المؤسسي اللازم لهذه الممارسات، والحفاظ عليها، وتتحمل الدولة كمثال جودة وسلامة النقد (المال) كما يتعين عليها إقامة الهياكل والوظائف اللازمة لتأمين حقوق الملكية الخاصة.. وإن تكفل ولو بالقوة عند الضرورة حرية عمل السوق.
لقد جاءت الممارسة والتطبيق للنظرية الجديدة "الليبرالية الجديدة" ، لتتخلى الدولة عن سيادتها وسلطاتها لمصلحة "الخصخصة" وحرية السوق، وحرية المال ومشروعات الأعمال، وإشاعة ثقافة الاستهلاك وتأسيساً إلى ذلك تشكلت بنية شبكية عالمية تدعم هذه الممارسات، وأصبحت هذه النظرية، كإطار مفاهيمي هي فلسفة الحُكم (الجديد) بالنسبة إلى أنظمة الحُكم (الجديدة) في العالم.
وإذا عدنا بالذاكرة الى وضع الصين والهند في الربع الأخير من القرن الماضي، كنموذجين للتعامل مع نظرية (اللبرالية الجديدة)، والتحولات الاقتصادية التي شهدها العالم، سنجد إن الاقتصاد الدولتين ظلا على مدى عقود يتقدمان ببطء وتثاقل، ومعزولين عن بقية العالم، الذي لم يعرهما أي اهتمام، بينما يعاني شعب كل من الدولتين الفقر، ويحدوه أمل ضعيف في إنجاز حياة أفضل.
ولكن الصين في العام 1978م، فتحت أبوابها على مصاريعها للعالم الخارجي، وهو مالم تفعله الهند إلا بعد بعد فترة من تاريخ بداية هذا التحول في الصين، إذ اتجهت الشركات الأجنبية إليها، بإنفاق أكثر من 600 بليون دولار منذ العام 1978م، وشيد الأجانب مئات الآلاف من المصانع في مختلف أنحاء الصين، واستخدموا عشرات الملايين من الأيدي العاملة، حيث بلغ ما يكسبه العامل الصيني الآن ما يزيد خمسة أضعاف تقريباً على ما كان يحصل عليه قبل النهج الجديد، وبتحسن مستوى دخل الفرد تحسن مستوى معيشة الشعب في امتلاك الشقق السكنية والسيارات والهواتف النقالة والحواسيب.
أما الهند فقد شرعت في نهجها الجديد في العام 1991م ، أي بعد أن اتخذت سياسة الانفتاح الاقتصادي، لكنها في نهجها الاقتصادي الجديد قد ترددت بين الأقدام حيناً والتراجع حيناً آخر عن الإصلاحات الاقتصادية؛ لكنه، وبعد أن عقدت الهند النية باتجاه هذه الإصلاحات نرى أن حياة الهند الآن هي في المتوسط أفضل مما كانت عليه قبل بدء الإصلاحات، ولكن ليس بالدرجة التي عليها الصين العادي.
وعلى الرغم من تباين مناهج المجتمعات في التعامل مع نظرية (اللبرالية الجديدة) بوصفها النظام الاقتصادي العالمي الجديد، إلا أن الطموح الإنساني لا تحده غير السماء، لمن شاء النهضة والتقدم. وعلى الدول النامية ومنها (اليمن) التي حظيت الآن بعضوية منظمة التجارة العالمية أن تتعامل بصورة عقلانية مع النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وأن تستفيد من التجارب والخبرات الإنسانية.
أننا نرى بوضوح أن بلدان الدول النامية التي انضمت الى المنظمة قد ظهرت فيها تحولات جذرية، كأثر إيجابي للتوظيف العقلاني لليبرالية الجديدة، بوصفها نظام اقتصادي عالمي جديد. بينما ربما تظل هناك دولة أو مجموعة دول ساكنة بلا حراك، ليس لها إسهام حقيقي في ذلك التغيير الجديد، وصنع المستقبل وعندها ستقع هذه الدولة أو تلك الدول – شاءت أم أبت – فريسة لأطماع الصراع والمنافسة لأقطاب السياسة العالمية الجديدة أو التي ستظهر في المستقبل القريب أو المتوسط.
وفي كل الأحوال، سواء توجهت تلك البلدان (النامية) في التعاطي إيجابياً وبعقلانية مع النظام الاقتصادي العالمي الجديد، أو لم تتوجه فإنها واقعه وستقع حتمياً تحت رحمة ومشروعية النظام الاقتصادي العالمي الجديد.
وأخيراً نتمنى ان يكون اليمن مستعداً ومهيئاً لهذا الحدث الانضمام لمنظمة التجارة العالمية "حامل التغيير"، كخيار انتهجه للمستقبل لتصب نتائجه لصالح الاقتصاد والشعب اليمني، وان تتعاطى المؤسسات اليمنية بعقلانية ومنطق مع متطلبات الاندماج في الواقع الجديد، كخطوة صائبة على طريق الاصلاحات الاقتصادية لتتوازى مع الاصلاحات السياسية، حتى لا تتكرر نفس الاخطاء عندما تعاطت مع متطلبات وقواعد النهج الديمقراطي الذي اثبت بعد حين، ان تعاطيها كان شكلياً لعدم التهيئة الجوهرية للمجتمع ومؤسسات الدولة التي تمكنهما من ممارسة الديمقراطية كسلوك ونهج للحكم في اليمن، وفقاً والضوابط والشروط والأدوات المتعارف عليها، وليس بالقواعد المبتكرة عند اليمنيين فقط.
[email protected]