تقتضي تطورات الأحداث العسكرية، التي تجري في محافظة عمران (50 كيلومتراً شمال العاصمة صنعاء) منطقاً واضحاً وحازماً للتعاطي مع جملة من الحقائق، كما هي، بعيداً عن أية رتوش، فيما يتعلق بجماعة الحوثي، التي دأبت على تقديم نفسها بصورة مخاتلة، بعيداً عن حقيقة أهدافها العقائدية وارتباطاتها الإقليمية.
فقد بات واضحاً، اليوم، الدور الذي باتت تضطلع به هذه الجماعة، انطلاقاً من حقيقتها، جماعة عنصرية مسلحة، تقول بامتدادها التاريخي لواحدة من أسوأ الأفكار الشوفينية الكهنوتية، ليس في تاريخ اليمن فحسب، بل والعالم الإسلامي كله، حيث تسعى هذه الجماعة إلى تحقيق جملة أهدافٍ، يأتي في مقدمتها السعي نحو استعادة ما تقوله حقاً إلهياً تاريخياً مستلباً لزعمائها في حكم اليمن، وما ستصل إليه ذراعها المسلحة بعد ذلك.
وبعيداً عن أية مواربات سياسية أو دبلوماسية، اعتاد بعضهم على ترديدها، بخبث شديد أو بسطحية أشد، في مقاربة حقيقة هذا الجماعة، التي باتت اليوم تمثل أكبر وأخطر، ليس فقط عائق للانتقال السياسي الديمقراطي، بل عوائق قيام دولة حقيقية في اليمن، جراء ما تمثله، اليوم، من تحد كبير على الأرض، بفعل توسعها العسكري المليشيوي، بهدف إسقاط الدولة اليمنية، هويةً جمهورية ونظاماً سياسياً تعددياً.
تكمن خطورة هذه الجماعة، في إشكالية فكرتها السلالية العصبوية، كنظرية كهنوتية ثيوقراطية للحكم، باعتبارها نسخةً أكثر تشوهاً للنظرية الهادوية، "الزيدية"، للحكم، الذي حصرته الأخيرة في ذرية من تسميهم "البطنيين"، أي ولدي الإمام علي بن أبي طالب، الحسن والحسين، وهم من يسميهم اليمنيون بالهاشميين السادة، وكان ينتمي إليهم آخر ملوك اليمن، الذين أنهت ثورة الـ 26 سبتمبر/أيلول حكمه الإمامي.
وتاريخياً، تموضعت هذه الفكرة "الكهنوتية" جغرافياً، في أقاصي شمال الشمال اليمني، أي ما تُعرف اليمن في محافظة صعدة، التي قدم إليها مؤسس الفكرة الأول، الإمام الهادي يحيي بن الحسين الرسي (859-911 م)، والذي جاء إلى صعدة في عام 284 هجرية، قادماً من جبل الرس في الحجاز.
وفي صعدة، استقرت الفكرة الزيدية بنسختها الهادوية، مستمرةً بنسخ عدة هناك، حتى نسختها الراهنة، أي الحوثية، نسبةً لحسين الحوثي المؤسس، وهناك في صعدة ظلت تتراوح هذه الفكرة مكانها حتى اللحظة.
ظلت هذه الفكرة "الطائفية" في حالة كمون دائم، حيث كانت تتمدد، أحياناً، لتصل بأصحابها إلى مشارف صنعاء، وتنكمش أحياناً أخرى، لتعود بهم محاصرين بين أسوار مدينة صعدة.
ست حروب
وبعيداً عن الإيغال التاريخي، تكمن قصة الجماعة الحوثية، كجماعة تنتمي إلى المذهب الزيدي، وتدّعي تمثيلها له، بظهورها على مسرح الأحداث منذ الحرب الأولى بينها وبين الجيش اليمني، والتي فجرها مؤسسها الأول حسين الحوثي، في يونيو/حزيران 2004، وانتهت بمصرعه، وتوقف الحرب الأولى حينها.
دارت بعد ذلك نحو ست حروب متقطعة بين هذه الجماعة والجيش اليمني، ساهمت عوامل عدة بنيوية وسياسية في بنية نظام الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، على تحديد مسارات تلك الحروب، التي أوصلت هذه الجماعة إلى هذه المرحلة.
وبفعل متغيرات عدة، داخلية وإقليمية ودولية، في مقدمها صعود الدور والنفوذ الإيراني في المنطقة، بُعيد سقوط بغداد 2003، كقوة إقليمية تتخذ من مسألة الأقليات الشيعية ورقةً سياسية رئيسية ضمن استراتيجيتها للتعاطي مع جوارها العربي، منذ إعلانها جمهورية إسلامية على يد الخميني عقب ثورة عام 1978.
خاضت الجماعة حرباً خاطفة ضد القوات السعودية في حربها السادسة، ولكن، يبقى بروزها الكبير على المشهد السياسي اليمني مع إعلانها انضمامها إلى ميادين الثورة اليمنية السلمية وساحاتها، حيث أمل كثيرون خيراً بذلك، بالنظر إلى حقيقة نشأتها، جماعة عنف مسلح منذ لحظتها الأولى.
لكن، سرعان ما أدت تحولات المشهد السياسي، محلياً وإقليمياً، إلى عودة هذه الجماعة سريعاً إلى طبيعتها الأولى، جماعة عنف مسلح، تمارس القتل والتوسع على الأرض بالقوة، بخوضها عدة حروب، مستغلةً وضع الدولة اليمنية حينها طوال عام 2011 وما بعدها، وكانت تمر في أسوأ لحظاتها، حيث مؤسساتها العسكرية منقسمة والأمنية مفككة ومنهارة. فسعت الجماعة إلى استكمال سيطرتها على محافظة صعدة تماماً، محاولةً قضم أجزاء كبيرة من محافظات مجاورة، مثل عمران، التي تحاصر عاصمتها الآن وحجة والجوف، مستغلة الظروف التي مرت بها مؤسسات الدولة اليمنية، لتحقق توسعاً على الأرض، وتفرض نفسها بديلاً عن الدولة، وتقوم بواجباتها في تلك المناطق، كما هو الحال في صعدة.
المتغير الجديد مع ثورة 11 فبراير/شباط السلمية، في مسار جماعة الحوثي، أنها مثلت ذراعاً إيرانية متقدمة في اليمن، على الرغم من الخلاف العقائدي بين هادوية الحوثية وإثني عشرية إيران، حيث سعت إيران من خلال هذه الجماعة إلى استكمال تطويق خصمها اللدود جنوباً، المملكة العربية السعودية، خصوصاً، وبقية دول الخليج الأخرى عموماً، بعد تمكنها من إسقاط بغداد، وتسلمها من الأميركيين على طبق من ذهب.
خاضت الحوثية سلسلة حروب ضد السلفيين في صعدة، معقلها ومعقل السلفيين الموالين للسعودية في دماج، في الوقت نفسه، حيث تمكنت، في ظل صمت مريب من الجميع، من طرد سلفيي دماج، على الرغم من صمودهم الطويل تحت الحصار والحرب، وفعلت الأمر نفسه مع بقية سلفيي صعدة في كتاف.
لكن، يبقى الحدث الأبرز في سلسلة حروب الحوثي التوسعية حروبه بعد ذلك ضد حلفاء المملكة التقليديين، ممثلين بشيوخ بيت الأحمر، حيث تمكنت من الانتصار عليهم، وطردهم من معاقلهم في عمران، وهي المحطة التي زادت من أطماع الحوثي التوسعية، خصوصاً بعد هزيمته القاسية في منطقتي أرحب شمال صنعاء، وقبلها في قتاله مع قبائل الجوف.
والأغرب من هذا كله ما تمارسه جماعة الحوثيين من سلوكٍ سياسي، يناقض بعضه، فقد شاركت في مؤتمر الحوار الوطني بقائمة كبيرة من الأعضاء، ربما تفوق حجمها الحقيقي، ودخلت الحوار من دون أية شروط عليها، من قبيل تسليمها السلاح الثقيل، الذي نهبته من معسكرات الدولة في صعدة، والسلاح، الذي يتم تهريبه إليها من إيران، في سفينتي جيهان 1 وجيهان 2، وجهات أخرى. لكن، دخلت الجماعة الحوار الوطني، ووقعت على مخرجاته، لتخرج مباشرة منه إلى ساحة القتال والحرب، مدشنة مرحلة من الحروب، التي بدأتها في دماج، وصولاً إلى حروب في محافظة إب في منطقة الرضمة، وأنس في ذمار، مروراً بحروب مديريات صنعاء والمحويت وغيرها، وصولاً، أيضاً، إلى ما تقوم به في محافظة عمران، وأخيراً وليس آخراً، عملية الجراف في قلب العاصمة صنعاء، وكلها حروب لا مبرر لها ولا عنوان سوى شهوة التوسع، والإحلال محل الدولة كأمر واقع، مستغلة تراخي الدولة تجاه تصرفات هذه الجماعة.
لكن، ما يلاحظه المراقبون لهذا الجماعة وممارساتها، يجعلهم يكادون يجزمون بوجود عامل خارجي مساعد، مثل خلية أزمة تدير عمليات الجماعة وحروبها وإعلامها، الذي يبث من الضاحية الجنوبية في بيروت، عدا عن وجود خبراء عسكريين إيرانيين، يدربون أفراد الجماعة، ويرسمون خططها وأهدافها التكتيكية، وعدا عن تحالفها مع بقايا النظام السابق، ممثلة بعائلة الرئيس علي عبد الله صالح، وما تمتلكه من مقدرات وإمكانات تم نهبها من مؤسسات الدولة، التي كانوا على رأس مؤسساتها الأمنية والعسكرية، وإلا فإن ما يحصل يستحيل على جماعة بدائية، كالحوثية، أن تقوم بها بمفردها.
هدن مع الجيش لخرقها
فمما اتسم به أداء هذا الجماعة، في حروبها أخيراً، حديثها الدائم عن دفاعها عن النفس، فيما كل حروبها خارج حدود وجودها، أي خارج محافظة صعدة، عدا عن لجوئها الدائم إلى عقد هدن، كلما شعرت بالضعف، فيما هي كل مرة، من تخرق أية هدنة أو وقف لإطلاق النار، وهذا ما يتوقعه كثيرون، اليوم، بشأن الهدن الموقعة مع الجيش في محافظة عمران، حيث لجأت الجماعة إليه، بعد تكبدها خسائر بشرية فادحة في صفوفها، نتيجة أن معظم مسلحيها أطفال، يتم تجنيدهم في تلك المعارك.
ومما يلاحظه المراقبون، أيضاً، بشأن جماعة الحوثيين، خطابها الديماغوجي، برفعها شعاراً مقتبساً من شعار للثورة الإيرانية، مع تحريف طفيف في مضمونه "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"، فيما كل معاركها تدور ضد مجتمعاتها المحلية، ولم يتسنَّ لها، ولو مرةً، أن استهدفت أميركياً أو إسرائيلياً، بل كل ضحاياها يمنيون. وتمارس الجماعة تقليداً حرفياً مكشوفاً لحالة حزب الله اللبناني، مستدعيةً تجربة في غير سياقها الموضوعي، ولا الجغرافي، ولا السياسي، ولم تقتصر هذه التقليدية على وظيفة الجماعة، وإنما حتى زعيمها يحاول مراراً الظهور، محاكياً شخصية حسن نصر الله، ما يعكس حقيقة الدور، الذي استخدمت إيران فيه الجماعة، كجزء من تمدداتها في المنطقة.
يبقى الدور الأخطر، اليوم، الذي تقوم به هذه الجماعة، وتماهت معه بوضوح، تحالفها مع الرئيس السابق صالح، في إطار جبهة الثورة المضادة بارتباطاتها الإقليمية إيرانياً، وربما بعض الأطراف الخليجية، وسعيها كرأس حربة إلى ضرب ثورة 11 فبراير/شباط السلمية، في إطار مشروع ثورات الربيع العربي المضادة، عدا عن إرث هذه الجماعة التاريخي، نقيضاً للذات والهوية اليمنية التاريخية والحضارية، باستنادها إلى فكرة عصبوية سلالية تقليدية، تقف ضد كل قيم الحداثة السياسية المعاصرة، كالجمهورية والديمقراطية والمدنية