حين فكرت دول الخليج أن ثورات الربيع العربي التي أسقطت أنظمة جمهورية فاسدة بدأت تتحول إلى عائلية ، باعتبارها ثورات ملهمة لإسقاط أنظمتها الوراثية ذات المشروعية المبنية على رضا شعبي من وضعها الاقتصادي ، قررت تشكيل خارطة فوضى لإسقاط تلك الثورات .
امتلك الخليجيون التكتيك لتحقيق هدفهم غير الاستراتيجي بكل الوسائل حتى العسكرية، ولكنهم يكتشفون يوما بعد يوم أنهم لا يمتلكون أي رؤية استراتيجية لتجنب حالة سخط تلك الشعوب التي حكمها الفقر والاستبداد ردحا من الزمن.
تفني دول الخليج طاقتها المستقبلية في إسقاط خصوم مفترضين حسب تنظيرهم وهم جماعات الاسلام السياسي، ولكنهم يتركون خلف عمليات التجريف في المنطقة فراغا كبيرا يستلمه أعداء حقيقيون للخليج النفطي.
يفضل صانع القرار الخليجي الجماعات الجهادية السنية والميلشيات الطائفية الشيعية تسلم زمام الأمور في بلدان الربيع العربي على أن تتسلم جماعات السياسة والديمقراطية بمختلف أيدلوجياتها الحكم في جمهوريات التوريث.
القبول بخيارات الأعداء الحقيقيين بدلا عن خيارات الأصدقاء او الأعداء المفترضين ليس ناجم عن رغبة لتحقيق استراتيجية السيطرة تحت شرعية مكافحة الإرهاب، وإنما كنتاج لقرارات عاطفية آنية تصب استراتيجيتها مستقبلا في مربعات النفوذ لأكبر خصم إقليمي وهي إيران الدولة التي سبقت الخليج في الشراكة مع الدول الكبرى لمكافحة إرهاب تنظيم القاعدة السني الذي تعتبره زعيمة العالم أمريكا العدو الاستراتيجي لأمنها القومي، فيما تتهم دول الخليج بتخليق وتمويل تلك الجماعات القاعدية في المنطقة.
لم يستفد الخليجيون من تأريخ صانعي السياسات العالمية الذين تعاملوا مع الثورة الإسلامية الإيرانية من خلال الاحتواء وليس الصدام حين بدت ملهمة لشعوب العالم الاسلامي مطلع الثمانينات.
حين شعر الأمريكيون أن خطورة ثورة الجمهورية الاسلامية الايرانية تتمثل فقط في حالة إلهام الاسلام السياسي السني في المنطقة دفعوا بها إلى تحجيم طائفي تحولت بعدها إلى ثورة امتداد لثورة الحسين ورمزا لثورات المظلومين الشيعة.
كان يمكن احتواء الربيع العربي لتجنب تأثيره على دول الخليج التي تحظى شعوبها برضا من أنظمتها الملكية الوراثية بسبب الرخاء الاقتصادي ، خلافا لحالة سخط شعوب الربيع العربي من أنظمة فشلت حتى في تحقيق أدنى حالة اشباع للحقوق الانسانية الغذاء والدواء والتعليم.
ستصارع دول الخليج الربيع الذي لن يموت بل سيتحول إلى نار تحت الرماد ، ثم تكتشف أنها مرهقة أمام جماعات العنف والسلاح المذهبية والطائفية ومن خلفهم مشاريع إقليمية ودولية، وبالتالي نقل نار السخط والانتقام والغضب والفشل إلى وسط الدار ، وسيعاد ترتيب المنطقة وفقا لمستجدات القوة وبعيدا عن تأثير النفط الخليجي الذي لم يعد في مأمن دول مرهقة تبحث عن النفوذ في ركام الفوضى.
وحدها إيران التي تتمدد في الفوضى منذ نشاة جمهوريتها الاسلامية على أنقاض نفوذ ونفط الملك الشاه صاحب أشرس جهاز استخباراتي وأقوى جيش، فقد ساهم حقده على الحرية والديمقراطية في تسليم تلك القوة وذلك النفوذ بسلاسة لعمامة الخميني المصنوعة على عين وسمع المخابرات البريطانية تفاديا لنفوذ ثورة القوميين الفرس الوطنية التي صادرت حين انتصرت في منتصف القرن الماضي أكبر استغلال استعماري لنفط الشعوب.
مع مطلع الثمانينات حققت العمامة الشيعية الحفاظ على أهم خزان نفطي في العالم في يد الغرب فسلموها الثورة الوطنية السلمية التي أسقطت إمبراطورية الشاه في 1979م، ومطلع التسعينات حقق الحكم السياسي الشيعي هدف الغرب في خلق مخاوف للخليج السني لاستمرار تدفق النفط فسلموا لها دولة مستقلة هي إيران بدون عراق صدام المحارب ، ومنذ مطلع التسعينات حقق قادة إيران تعاونا وشراكة مع الأمريكان في مكافحة الارهاب فسلمت لهم بغداد العراقية وكابول الأفغانية في 2003، ومنذ 2011 وعقب الثورات الشبابية السلمية تحقق إيران توازنا سياسيا جديدا ضد موجة الصعود للإسلام السياسي السني الذي وجد نفسه وحيدا مهيئا كحالة منظمة للحكم بعد تهاوي أنظمة كانت لا تساعد شعوبها على تجريب الديمقراطيات ، وبالتالي ستستلم النفوذ الاقليمي في اليمن والخليج كمكافأة للمهمة الملقاة على عاتقها.
ليس إيران أو الغرب هم صانعي الأحداث والمكافئات ، بل انعدام الرؤية الخليجية التي تتحرك وفقا لردود الأفعال فتدخل المنطقة في فوضى تستلمها إيران لتهدئتها والاستفادة منها.
ليقوم الخليجيون بجردة حساب لفوضى تحركاتهم ويعيدون رسم استراتيجية تجعل منهم دولا واقليما يساعد على الاستقرار وليس الفوضى، بدلا من الانغماس في أوهام نفوذ كاذب يجعل من الديمقراطية عدوا وحيدا لهم ، ومن الجماعات والتيارات السياسية الاسلامية وغير الاسلامية خصما