تكتسب مفردة "الجامع" في اللغة العربية مدلولا قدسيا كبيرا لما تتضمنه من معاني التقرب إلى الله والتفرغ للعمل المقدس النبيل الخالي من المقاصد الدنيوية العابرة، وعندما تستخدم هذه المفردة للتعبير عن المدلول اللغوي الصرف ـ خصوصا عندما يكون الهدف منه أناسا ذوي مقاصد نبيلة ووطنية وإنسانية رفيعة ـ فإن هذا المدلول أيضا لا يخلو من مضامين مملوءة بالنبل والسمو.
أتوقع أن الناشطين السياسيين الجنوبيين عندما تنادوا إلى فكرة "المؤتمر الوطني الجنوبي الجامع" كانوا يدركون أن هذا المؤتمر لا بد أن يحمل شيئا من أحد هذه المدلولات (اللغوي والاصطلاحي والطقوسي) أي أن هذا المؤتمر لا بد أن يأتي للتعبير عن عدد من القيم السامية والأهداف النبيلة والمقاصد العميقة الصلة بمصير الجنوب وأبنائه، وهو (أي المؤتمر) لا بد أنه جاء ليجمع قوى الثورة ولا يفرقها، وليوحد أنصار الثورة ولا يمزقهم، وليضيف إلى قوة الثورة ولا يخصم منها، ولا بد للمرء أن يقدر الجهود الكبيرة والمضنية التي بذلها أعضاء اللجنة التحضرية للمؤتمر، وهم يجوبون البلدان والعواصم ويتنقلون في محافظات البلاد للوصول إلى أكبر عدد من مكونات الثورة الجنوبية السلمية، ولأنني لم أعثر على أي ورقة من أوراق المؤتمر ولجنته التحضيرية ولم أقرأ سوى قليل من التصريحات والمقالات المتصلة بموضوع المؤتمر فإنه لا يمكنني الحكم على مدى تطابق الاسم مع المسمى، ولأن كاتب هذه السطور لا يميل كثيرا إلى توجيه النصائح ويؤمن بقدرة الناس على تحديد الخيارات والبدائل المناسبة لكل ظرف ومكان وزمان فإنه يمكن هنا الإشارة إلى بعض الآراء حول ما يجعل الجامع جامعا وييسر بلوغه الأهداف التي يتوقعها الناس منه.
إن المؤتمر لكي يكون جامعا لا بد أن يكون معبرا عن كل ألوان الطيف السياسي الجنوبي، وفي هذه الجزئية لا يمكن تجاهل التباينات والتفاوتات في المواقف بين الشركاء السياسيين الجنوبيين لكنهم يستطيعون أن يحولوا المؤتمر إلى وسيلة توحيد من خلال الاتفاق على القواسم المشتركة الكبرى (وما أكثرها).
سيكون من الحكمة بل ومن الضرورة، بجانب الاعتراف بالتباينات، تركها لتحسم لاحقا ليس بوسائل التنافر والتنابز بالألقاب وتبادل الشتائم والاتهامات، بل بالحوار المنفتح وبالقبول بالتباين باعتباره علامة عافية ودليل على التنوع والتعايش وأداة من أدوات التطور، وحينما يعجز الحوار البناء المنفتح في حسم القضايا الخلافية، وهذا احد الاحتمالات الواردة سيكون من الحكمة تركها لتبت فيها المؤسسات الدستورية التي يفترض أن الحكم الديمقراطي الجنوبي الذي ستتمخض عنه الثورة الجنوبية سيقيمها بالوسائل الديمقراطية العصرية.
لقد قامت الثورة الجنوبية السلمية على مبدأ إنساني وأخلاقي رفيع وسامي وهو مبدأ التصالح والتسامح وفي هذا السياق لا أتصور أن يتجاهل المؤتمر الجنوبي الجامع التمسك بهذا المبدأ واعتباره واحدا من مبادئ الثورة ينبغي أن يتجسد في ثقافة وسلوك وممارسات الثوار ومكونات الثورة السلمية الجنوبية حاضرا وفي المستقبل.
أن المؤتمر لا يمكن أن ينجح ما لم يحدد بالضبط الملامح الأساسية لمشروع المستقبل الجنوبي، والمقصود هنا المبادئ الأساسية لشكل إدارة البلاد ونظام الحكم وطبيعة هذا النظام وهنا ينتظر الناس بقلق الموقف من الحريات العامة، الممارسة الديمقراطية، حكم القانون، حرية التعبير، دولة المؤسسات، السلطة وكيفية الوصول إليها، ثم السياسات الاقتصادية والاجتماعية لقوى الثورة الجنوبية السلمية.
اتمنى على المؤتمرين عدم الانسياق وراء الرغبات التي تستعذب الخوض في التفاصيل الصغيرة والمفردات المثيرة للتنافر والاتفاق على ما هو رئيسي ومفصلي وترك التفاصيل (المملوءة بالشياطين) حتى تستتب الأوضاع وتحسم الثورة أهدافها الرئيسية.
سيكون من المهم أن لا يتحول المؤتمر الجنوبي الجامع، إلى منصة لجرد قائمة الخصوم والأعداء في الساحة الجنوبية، وبعبارة أخرى أن يحرص المؤتمر على تقليص دائرة الخصوم كلما أمكن وتوسيع دائرة الأنصار كلما أمكن، لأنه بذلك تستطيع الثورة الجنوبية أن تحشد أوسع القطاعات لنصرتها والتمسك بخياراتها أما في حالة حصول العكس أي انشغال المؤتمر بحصر المختلفين معه والبدء بالبحث في كيفية إدانتهم والشروع في خوض المعارك الإعلامية التي تبدأ ولا تنتهي فإن المؤتمر سيقع في الأخطاء التي وقعت فيها الكثير من الثورات التحررية التي ما إن أنجزت مهمة التحرر السياسي حتى شرعت في فتح جبهات العداوات المتعددة.
إن المؤتمر الجامع لا بد أن يستوعب متطلبات المرحلة التاريخية الراهنة والتطلع إلى المستقبل والتحرر من أوزار الماضي وعندما يقتضي الخوض فيها أي في الماضي وأوزاره فإنما لأخذ العبرة واستخلاص الدروس، واستخدامها في التعامل مع مقتضيات اللحظة الراهنة والمراحل المستقبلية.
برقية شعرية:
* يقول الشاعر العربي الفلسطيني الكبير محمود درويش:
وأَنا أُريدُ ، أُريد أَن أَحيا ، وأَن أَنساك
أَن أَنسى علاقتنا الطويلة لا لشيءٍ ،بل لأَقرأ
ما تُدَوِّنُهُ السماواتُ البعيدةُ من رسائلَ
كُلَّما أَعددتُ نفسي لانتظار قدومِكَ ازددتَ ابتعاداً
كلما قلتُ: ابتعدْ عني لأُكمل دَوْرَةَ الجَسَدَيْنِ، في جَسَدٍ يفيضُ،
ظهرتَ ما بيني وبيني ساخراً : ” لا تَنْسَ مَوْعِدَنا"