منذ ظهور حركة أنصار الله ( الحوثيين ) والغموض يلفها , فقد بدأت كحركة شبابية ثقافية دينية تدعي الحفاظ على المذهب الزيدي وإحيائه , وفي خضم صراعها مع الدولة أصبحت تمتلك ذراعاً عسكرياً وأمنياً وإداريا , وبدأت بإدارة المناطق التي وقعت تحت سيطرتها ثم أصبحت حركةً سياسية دينية عسكرية بامتياز , تصدرت المشهد اليمني في الآونة الأخيرة كما هو معروف للجميع .
مبررات مختلفة وأهداف خفية
خلال فترة الحروب الست في صعدة وما تلاها كانت تصريحات وخطابات قيادة جماعة أنصار الله (الحوثيين ) تنتقد السلطة وتندد بما يتعرضون له من ظلم واستهداف على حد وصفهم , وكانوا يبررون كل تصرفاتهم بأنها دفاع عن النفس , ولعل تلك التصريحات قد وجدت من تعاطف معها وصدقها , ولكن بعد ثورة 2011م شاهدنا وتابعنا أن أنصار الله استمروا في سرد نفس التبريرات السابقة والاتيان بمبررات جديدة حسب كل منطقة وظرف , فقد هاجموا دماج وحاشد وعمران وأرحب وحجة والجوف والرضمة تارةً تحت لافتة الدفاع عن النفس , وتارة بدعوى محاربة الدواعش والتكفيرين والقاعدة , وتارةً أخرى بمبرر تأمين الطرقات , بل وصل بهم الحد إلى مهاجمة اللواء 310 ونهبه وقتل قائده العميد القشيبي مرة بتهمة تبعيته للإصلاح , و أخرى بصفته لواءاً متمرداً على وزارة الدفاع , وهم أنفسهم ما زلوا تحت تصنيف المتمردين .
وعندما أقرت الحكومة زيادة أسعار المشتقات النفطية في أغسطس من العام الماضي كان ذلك مبرراً قوياً لهم للتحرك باتجاه صنعاء لإسقاط الجرعة والحكومة وتنفيذ مخرجات الحوار كما أعلنوا , وتقريباً تم الاستجابة لكل مطالبهم ولكنهم في الحقيقة كانوا يخفون أهدافاً أخرى غير معلنة وكان لابد من تحقيقها , وهي دخول العاصمة والسيطرة عليها , وكان لهم ما أرادوا دون قتال حقيقي أو اختبار لقوتهم وقدرتهم , , فقد سلمت لهم الكثير من المواقع والمعسكرات والمنشآت دون أي مقاومة تذكر و تم توقيع اتفاق السلم والشراكة والذي ظل يراوح ولم يلتزموا به بل خالفوا ملحقه الأمني واستمروا في التوسع في المحافظات كالحديدة وإب والبيضاء , وعندما تم الانتهاء من صياغة مسودة الدستور متضمنة تقسيم البلاد إلى أقاليم , اتخذوها ذريعة للانقضاض على آخر مؤسسات الدولة التي لم تسقط بأيديهم بعد وهي الرئاسة وحدثت بعدها استقالة الرئيس والحكومة .
نشوة الانتصار والقرارات الخاطئة
المراقب لكل تلك التطورات يشاهد أن فورة ونشوة الانتصار قد تملكت الجماعة وقيادتها , وأعطتهم شعوراُ بأن كل شيء أصبح طوع أمرهم , وتحت سيطرتهم تقريباً , فأصدروا الإعلان الدستوري الذي لم يحل المشكلة والأزمة بل فاقمها , وزاد من حدتها وأدى إلى انسحاب الكثير من ممثلي السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي في ظاهرة فريدة ونادرة لم يشهد لها اليمن مثيلاً في تأريخه المعاصر .
ولكي تتم قراءة الواقع بشكل جيد ومبسط , لابد من الاعتراف أن أخطاء الجماعة قد بدأت وتسارعت منذ اختطاف بن مبارك ومهاجمة الرئاسة و منزل الرئيس المستقيل , الذي كان وجوده عاملاً مساعداً وغطاءاً لتوسعهم , فقد خفف عليهم كثيراً من النقد والضغط الداخلي والخارجي منذ بدأوا في دماج حـتى دخلوا صنعاء , بل وشرعن لهم تحركاتهم كزيارته لعمران بعد استيلائهم عليها و رعايته لتوقيع اتفاق السلم والشراكة بعد سيطرتهم على العاصمة صنعاء , ولعل استقالة هادي وحكومة بحاح قد خلطت الأوراق كثيراً على الجماعة وأوقعتهم في مأزق وورطة قانونية ودستورية وشعبية وجعلتهم وجهاً لوجه أمام الشعب والقوى السياسية والمجتمع الدولي .
دور الجماعة المرسوم
لعل تحركات الحوثي العسكرية ضد جماعات سنية إسلامية قد لاقى ارتياحاً دولياً وإقليمياً في بدايته , وبالذات استهدافه لجماعة الإخوان و تنظيم القاعدة , ولعل تلك القوى غضت الطرف عن تلك التحركات لأنها اعتقدت أن الحوثي يوفر عليها الوقت والجهد والمال في محاربة تلك الجماعات كالقاعدة تحديداً , ولكن المجتمع الدولي والإقليمي يتعامل مع الجميع من منظور مصالحه وفي نفس الوقت ضمن أدوار معينة , وهو يظل ساكتاً مادام هذا الطرف أو ذاك ينفذ الدور المطلوب منه بشكل مباشر أو غير مباشر , خاصةً في ظل التقارب الأمريكي الإيراني الذي ينطلق من الشراكة في محاربة داعش والقاعدة , أملاً في التوصل إلى اتفاق نهائي حول البرنامج النووي الإيراني , ولعل دور أنصار الله كان يمضي في هذا الاطار .
التغيرُات المتسارعة
والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا حدث ولماذا هذه التطورات الدراماتيكية المتسارعة ؟
ولكي تتم الإجابة على هذا السؤال , لابد من التطرق إلى أن الحوثي كان مرحباً به دولياً وإقليمياً لتصفية الجماعات الجهادية السنية وأن يبقى طرفاً من ضمن الأطراف السياسية الفاعلة في الساحة اليمنية , والتي مضت في إطار تسوية سياسية برعاية أممية و مباركة إقليمية , ونتج عن ذلك انتخابات رئاسية وحوار وطني ومسودة دستور , ولكن جماعة الحوثي يبدو أنها بالغت في فهم الرسالة والتغاضي الدولي عن تحركاتها , وتجاوزت الحدود التي كانت مرسومة لها سوآءا من الخارج أو من الداخل , وبالذات من الأطراف السياسية التي ساعدت الجماعة وتحالفت معها في تحركاتها الشعبية والعسكرية كحزب المؤتمر الموالي للرئيس السابق صالح , وكان إصدار الإعلان الدستوري وحل البرلمان هو ذروة ذلك التمرد من قبل الجماعة على الجميع داخليا وخارجياً ,
العزلة والحصار
ظهر للأطراف الإقليمية والدولية أنها فشلت في تقديراتها لطموحات الحركة الحوثية , بل أن الحركة تحدتها جميعاً , وقوضت كل أسس ومبادئ العملية السياسية الانتقالية , وتصدرت المشهد بشكل صارخ لا تخطئه العين , وفي ذلك مخاطر جمة نتيجة للاستقطاب والصراع السياسي القوي بين المكونات السياسية اليمنية التي لن تقبل أن تسلبها جماعة الحوثي مكتسباتها ومصالحها في السلطة , وهذا الأمر قد يتحول إلى موجة عنف مدمرة , ستُلحق اليمن بالدول الفاشلة كالصومال والعراق وسوريا وليبيا وما لذلك من آثار مدمرة على أمن الخليج والبحر الأحمر و خليج عدن , ومن تهديد للملاحة الدولية وتشجيع للقرصنة , وخلق مناطق آمنة لنشاطات الجماعات المتطرفة والإرهابية , بالإضافة إلى تخوف خليجي سعودي من وجود حليف قوي لإيران في حديقتهم الجنوبية .
كل ذلك سارع من إجراءات مواجهة الانقلاب الحوثي , فقد بدأت الدول بسحب السفراء وتصعيد موقف دول الخليج ومن ثم تصعيد الموقف في مجلس الأمن الدولي . ولعل سحب السفراء هو للتعبير عن الرفض لما قامت به حركة الحوثي والتخلي عن دعم العملية السياسية ورعايتها ولو مؤقتاً , والنأي بالنفس عن أي مسؤولية تجاه ما قد يحدث في اليمن من تطورات ومشاكل , كذلك فإن انسحاب الشركات النفطية وتخليها عن قطاعات امتيازاتها , وما لذلك من آثار سلبية على الاقتصاد الأمر الذي قد يتزامن مع عقوبات لا يتحملها الاقتصاد اليمني . كما أن ممارسات الجماعة وقمع الحريات واعتقال الناشطين والمتظاهرين والتنكيل بهم , قد تسبب في موجة سخط و رفض شعبي عارم في الكثير من المحافظات وقتال واستعداد للقتال في بعضها وفوضى وانفلات في أجزاء أخرى من البلاد .
الانحسار
وهنا تبدو الحركة الحوثية محاصرة ومعزولة داخلياً وخارجياً , وتواجه مشاكل ومعضلات وتحديات ليس بمقدورها تجاوزها أو حلها في الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية , الأمر الذي سيفجر ضدها غضباِ وثورة شعبيةً تؤدي لإسقاط الجماعة و انحسار نفوذها بشكل كبير في المستقبل والثمن قد يكون كبيراً جداً , ولكن في الأخير سينتصر الشعب إذا لم تنصاع الجماعة وتعود خطوات للوراء و يبدو أن هذا السيناريو هو ما تتجه إليه البلاد .
الحل
وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال وجيه وهو كيف يمكن تجنب هذا السيناريو ؟
والإجابة على هذا السؤال تكمن في خطوات , تبدأ بتعليق الإعلان الدستوري أو إلغائه والتوفيق بين الأراء المختلفة واعتماد الدستور النافذ واتفاق السلم والشراكة وقرارات مجلس الأمن الدولي ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني كمرجعية للحوار والتوافق والتوجه نحو انتخابات رئاسية مبكرة تنافسية لمدة عامين يتم خلالها تعديل الدستور الجديد والتوافق على المواد المختلف عليها فيه , وتصحيح السجل الانتخابي ثم الاستفتاء على الدستور و من ثم إجراء انتخابات برلمانية و رئاسية والعودة إلى الحياة المدنية السياسية الطبيعية والتركيز على النهوض باليمن في كل المجالات الحيوية والتنموية .