عملت الحوثية بعد انقلابها على إضعاف كل الأطراف بلا استثناء، وخططت لإنهاك كل الأقوياء عبر القوة القاهرة والعمل في الوقت نفسه في دوائر الفئات الفقيرة وتبني العائلات الباحثة عن دور، وكونت شبكات من الدعاة تعيد تعبئة كتل اجتماعية لتقوية جهازها الميليشاوي وضرب القوى المتنفذة التي ترفض الرضوخ لمشروعها.
عملت الحوثية لتدعيم قوتها على تفجير التناقضات بشكل عشوائي، فهي توظف قوى ضد قوى في صراع المصالح، وتنمي الأحقاد والكراهيات المنفلتة، وتحيد الكتل المنظمة، حزبية أو جغرافية أو قبلية في صراع التناقضات، وهذا التحييد مهم وهي تفترس أحد الأطراف وتترك المحايد حتى يحين دوره، وإذا حان تندفع إلى تفجيره من داخله وقيادة عبر معارك طويلة النفس، وكلما زادت التناقضات وتفرقت القوى تتقوى الحوثية، ويشكل أي توافق بين القوى المختلفة خطرا يهدد الأقلية الحوثية، لذا تلجأ إلى كل الممكنات بما في ذلك أعمال سرية معقدة لإعاقة أي لحمة قد تشكل حراكا لتنظيم التناقضات.
إلى ذلك لعبت الحوثية وفق خطة واضحة مع انتفاضة 2011، فاستغلت الثورة الإخوانية والتعامل معها وفق تحالف إجباري، ووظفت شبكات الشباب المستقل والحزبي المتحرك في الثورة لتفجير التناقضات في بنية الاحتجاجات، وبين الكتل التي ارتكز عليها نظام صالح ولعب اليسار دورا محوريا قبل الاحتجاجات وأثناءها وبعدها في الإسهام في تفجير التناقضات دون علم بمآلاته من أغلب أطرافه.
حتى التيار الليبرالي أسهم في تفجير تلك التناقضات رغم محاولته كشف طبيعة الصراع بهدف إعادة بنائه، إلا أن اللعبة كانت أكبر من القوى المشتتة التي راهنت على مشروع وطني مختلف، ووقع الكثير في فخ لعبة تفجير التناقضات التي لم تبلغ ذروتها في حينه، وما زالت الحوثية تمارس التضليل في تغطية مشروعها حتى بعد انقلابها، إذ يقاوم التيار الحوثي تنوير القوى اليمنية في إعادة فهم الصراع وبناء التناقضات وتوجيهها في مسارات إخراج الوطن من كارثة السقوط التي تجري على قدم وساق اليوم.
مع الانقلاب تغيرت الرؤية لدى مختلف التيارات التي شكلتها الحركة الوطنية، وما يدعم هذا الاتجاه أن التحالف العربي أصبح المؤثر الأكبر في الصراع الداخلي ومنح الحركة الوطنية اليمنية الثقة بإعادة ترتيب أولوياتها. وقد تم خداع كثير من القيادات، فقد شكلت الاختراقات الحوثية لكثير من الدوائر المؤثرة ووقعت في فخ الخلية الحوثية التي اخترقت دوائر تلك التيارات وبالذات المؤتمر الشعبي العام، وتم استهداف رموز سياسية من قبل التيار الحوثي في المؤتمر، والتي كانت ترى المنظومة الحوثية أنها عائق أمام سيطرتها وتدفع بقوة باتجاه يمن جديد، ووقعت الأطراف المتناقضة في فخاخ الحوثي والتي أدخلت الجميع في نفق مظلم ما زال في بداياته وبالإمكان الخروج منه إذا ما تم التكامل مع المشروع العربي الذي أسست له عاصفة الحزم.
ونشير هنا إلى مسألة في غاية الأهمية؛ فقد اعتمدت الحوثية على بعث الصراع الطائفي لتحويل جغرافيا القبائل في الهضبة الشمالية إلى كتلة مغلقة ورافد للتجيش وإدارة حروبها، وليس الصراع الطائفي إلا الاستراتيجية المحورية التي اتبعتها إيران وما زالت وستستمر في تشكيل كتل شيعية متماسكة في وجه الأكثرية الوطنية واختراق المجالات السنية وتشييعها.
اعتمدت إيران على تطييف المجتمعات العربية وبناء كتل صماء متوحشة في وجه كل من يغايرها، وفي الوقت نفسه تضخ أموالا طائلة لإحداث تشيع سياسي لدى تيارات الإسلام السياسي السني، واعتمدت إيران على اليسار في سعيها المحموم إلى إحداث تشيع سياسي، بل إن هناك تيارا قوميا عروبيا غارقا حتى أذنيه في التشيع السياسي لطهران وأيديولوجيتها الخمينية. ووظفت إيران الاستخبارات وأجنحة من "القاعدة" في ضرب الشيعة بأعمال بشعة وقذرة وإجرامية لبعث الخوف في أوساطهم وتكتيلهم باتجاه محاربة ومقاتلة كل ما هو مغاير للتشيع، والتعامل مع الجميع باعتبارهم دواعش، وهذه الطريقة الفعالة عمقت من الصراع الطائفي.
الحوثية ليست إلا امتدادا لهذه الاستراتيجية، لذا ستجدهم يقاتلون ويعاملون كل من هو ضدهم باعتباره داعشيا وتكفيريا حتى لو كان الإرهاب عدوه الأول والأخير. فالإرهاب ضد الشيعة ليس إلا خيارا إيرانيا خمينيا، وهذا لا يعني نفي وجود إرهاب خبيث وسرطاني لا بد من مواجهته، إلا أن الضربات المتقنة التي تضحي بالعامة ليست إلا أفعالا إيرانية، فالصراع الطائفي يمثل المدخل الوحيد لها لاختراق منطقتنا بأدوات داخلية أصبحت مخالب تخريبية بأيدي الولي الفقيه.
ومن يراقب الصراع اليمني يعلم أن الصراع ضد الحوثية لم يكن يوما ما طائفيا، وهذه مسألة محسومة لدى كل يمني إلا أن الحوثيين يفجرون المجتمع طائفيا، فالصراع الطائفي مخططهم، وأصل الاستراتيجية التعبوية التي يعتمدون عليها، ومن يتتبع الحركة الحوثية سيجد طائفيتها هي محور حركتها من الرمزيات إلى الخطاب إلى الأفعال إلى سلوكهم اليومي غير المرئي والمرئي، كله يعتمد على تجذير الطائفية واستتباع الباقي للطائفية باسم شعارات عائمة ودعايات تضليلية لها علاقة بالصراعات الداخلية والإقليمية والدولية. فمن يلاحظ كل فعل حوثي بعد دخول العاصمة سيجد أنها تمارس الطائفية في المجتمع ومؤسسات الدولة، وإهانة كل شيء له علاقة بالمذاهب الأخرى، ونتيجة لذلك أصبح وجود رئيس من الجغرافيا السنية وجنوبي مثلا رغم علمانيته فعلا تعبويا لإسقاط الدولة. ومع الانقلاب سعت الحوثية إلى طرد وقتل وتشريد واستنباع كل ما له علاقة بالمذاهب المغايرة لها في الجغرافيا الزيدية، وتعاملت مع صنعاء باعتبارها مدينة تابعة لها لا عاصمة وطنية رغم أن سكانها في أغلبيتهم العظمى على اختلاف مع الحوثية كأيديولوجيا طائفية.
وفي حراكها السياسي والحربي والدعوي تبني الحوثية نموذجا لشمولية تعتمد على إضعاف كل ما عداها، وبناء قوتها اجتماعيا وفي المجال السياسي والعسكري، وبدأت تركز على السيطرة على الموارد وبتعطش دفع كتلها إلى استمراء فساد مقيت فاحت رائحته في كل أرجاء اليمن، إلى حدّ خلق سوق سوداء منظمة لامتصاص موارد الناس وتعظيم ثروة قاداتها وتمويل أنشطتها.