بقلم | إحسان الفقيه
“وصل على الباخرة “كوثر” التي أقلّت الفوج الأخير من الحجاج المصريين، كثير من الشخصيات المصرية المحترمة، لم تُسْعفنا الظروف بالتعرف إليهم بعد صدور العدد الماضي، وإنا نذكر منهم الأستاذ الكبير “حسن البنا” المرشد العام لجمعية الإخوان المسلمين”.
هو مقطع من خبر ورد في جريدة “أم القرى” السعودية بتاريخ 14 مارس 1936، تحت عنوان “على الرحب والسعة”، يتحدث عن وصول البنا رحمه الله إلى أرض الحرمين لأداء الحج بصحبة مائة من أصحابه، وحضروا خلال الرحلة بالملابس العربية مؤتمرا للوفود عقده الملك عبد العزيز رحمه الله، وألقى البنا خلال المؤتمر كلمة أثارت إعجاب الوفود.
تلك الحفاوة كانت إحدى الصور التي تُبرز جذور العلاقات بين السعودية وبين جماعة الإخوان المسلمين، والتي يجاهد البعض لكي يصور تلك العلاقة بأنها عداء استراتيجي بين الجانبين.
نعم، العلاقات بينهما شابها التوتر أحيانا، لكنه في المقابل ظهر في كثير من فتراتها مدى الانسجام والانفتاح بين الطرفين.
كانت أولى محطات الاتصال بين البنا وبين المملكة، عندما عرض عليه العلامة محب الدين الخطيب رحمه الله التدريس في السعودية، إلا أن الأمر لم يتم بسبب استجابة الحكومة المصرية لضغط الإنجليز في عدم الاعتراف بحكومة السعودية.
في موسم حج 1945، أقامت بعثة الإخوان حفلا بأحد الفنادق بأرض الحرم بالاشتراك مع شباب مكة، دعي إليه كبار المسؤولين ومبعوثي الأقطار الإسلامية، وحضره الأمير عبد الله فيصل نيابة عن الملك عبد العزيز، وكان فرصة للتآلف بين الإخوان وأهل الحجاز.
اهتم الإخوان بزيارة الملك فاروق للسعودية، وأطلقوا دعواتهم لوحدة الدول العربية واصطفاف تلك الدول للمطالبة بالاستقلال.
الإخوان استقبلوا الملك عبد العزيز أثناء زيارته مصر، واستضافوا مندوب الحكومة السعودية للدعاية للحج في دار الإخوان المسلمين، حيث ألقى محاضرة عن الحج، وأجرى الإخوان معه حديثا عن مشاعر السعوديين تجاه القضية الفلسطينية.
الملك عبد العزيز استقبل البنا وجماعته في مأدبة كبار الحجاج عام 1946، وتحدث الملك مع البنا عن القضية الفلسطينية، واستمع إلى رأي المرشد الذي كان يُفضّل مساعدة الفلسطينيين بالسلاح دون تدخل الجيوش النظامية.
وكانت حرب فلسطين 48 محطة أخرى التقى فيها الطرفان، حيث اتسع ميدان الحرب للدول العربية كان منها السعودية، قاتلت إلى جانبهم كتائب المتطوعين من الإخوان المسلمين من مصر والأردن وسوريا والعراق وفلسطين، وقبلها أرسل البنا إلى جامعة الدول العربية معربا عن استعداده لإرسال عشرة آلاف مجاهد، إلا أن حكومة النقراشي رفضت، فنظّم الإخوان مظاهرة كبيرة شارك فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز رحمه الله.
بل وصلت العلاقات بين البنا والسعودية، إلى درجة أن المملكة استشعرت تعرض مرشد الإخوان للاغتيال على أرض السعودية من قبل الحزب السعدي، فأنزلته الحكومة في ضيافتها، وأحاطته بحراسة مشددة.
كانت علاقة بين دولة لها زعامتها الدينية، وبين كيان إسلامي ضارب بجذوره في جسد الأمة، ولم تكن مقصورة على شخص البنا، فالمرشد العام حسن الهضيبي، رحمه الله، قام بزيارة السعودية عام 1954، وأكرمه الملك عبد العزيز، وأمر بنقله في سفره إلى الشام بطائرة سعودية خاصة.
وهذا المفكر والأديب سيد قطب رحمه الله، عندما صدر الحكم ضده بالإعدام في حقبة عبد الناصر، تدخل الملك فيصل رحمه الله لدى الرئيس المصري لتخفيف الحكم، إلا أن الأخير قال لمن حمل إليه البرقية من أعوانه: “أعدموه في الفجر، واعرضْ عليّ الرسالة بعد الإعدام”، وبعد ذلك أمر الملك فيصل بطباعة مؤلفات سيد قطب.
لقد كان توجه الملك فيصل، رحمه الله، التقارب مع جماعة الإخوان لمواجهة القومية التي كرس لها وسعى لفرضها جمال عبد الناصر، انطلاقا من رغبته في الحفاظ على الهوية الإسلامية للشعوب العربية.
السعودية يا أعداء التوافق فتحت أبوابها لعناصر الإخوان الفارين من بطش الحقبة الناصرية، وعملوا على أرضها، وانتشروا في أرجائها.
تحدثوا كيفما شئتم عن فترات متوترة مرت بها العلاقات بين تلك الدولة وذلك الكيان، كان منها موقف الإخوان المعارض لحرب الخليج، لكن المنصف من يرى أن هذه القضية كانت مثار جدل بين السياسيين، واختلفت فيها الرُؤى ووجهات النظر، وليس الإخوان وحدهم فعلوا.
تحدثوا كيفما شئتم عن موقف الإخوان تجاه إيران والذي يتسم بالمرونة والبراغماتية وهو أمر يتعارض مع رغبة السعودية المنافس التقليدي لإيران في المنطقة، لكنكم ستعجزون عن اتهام الإخوان بالتوافق الأيدلوجي مع إيران، إنّما هي مصالح سياسية في ظل الظروف الصعبة التي مرت بها الجماعة في المحيط العربي.
حماس بصفتها حركة خرجت من رحم الإخوان كانت تتلقى الدعم من إيران، ولكن لماذا؟ أليس لأن العرب قد تخلوا عنها؟ لكنها أثبتت سلامة موقفها عندما رفضت التماهي مع الموقف الإيراني في أزمتي اليمن وسوريا، وهو ما ترتب عليه ثورة الإعلام الإيراني ضد حماس وقطع الدعم عنها.
في عهد الملك سلمان، شهدت العلاقات بين الطرفين تطورات إيجابية يسعد لها فقط عشاق التآلف والوحدة بين المسلمين.
كان بدايتها تصريح وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل رحمه الله في العام الماضي، والذي نفى أن تكون لدى المملكة مشكلة مع الإخوان، تلاها حديث لأحمد التويجري، العضو السابق في مجلس الشورى السعودي على قناة “روتانا” يقول فيه: ” المملكة ليس لها مشكلة مع هذه الجماعات والعكس صحيح.. وينبغي عليهم أن يكونوا حلفاء للمملكة وأن توجد بينهم وبين المملكة علاقات إستراتيجية”.
السعودية في ظل مواجهتها غير المباشرة مع إيران في أكثر من ميدان، أدركت أن معركتها ليست مع تيار الإسلام السياسي، واتجهت إلى احتوائه وإقامة علاقات هادئة معه، فلا يعقل أن تدعم إيران مليشياتها الموالية التي تنفذ أجنداتها في عدة دول، بينما يغلب طابع النزاع والشقاق بين السعودية وبين الإخوان، هو أمرٌ قطعا غير مقبول.
ولذا أخذ التقارب النسبي بين المملكة وبين الإخوان شكلا أكثر انفتاحا واتساقا، ففي اليمن تؤيد السعودية الإصلاح اليمني (إخوان مسلمين) نوعا ما، وفي سوريا تدعم المملكة الإخوان المسلمين ضمن دعمها العام لفصائل المعارضة المعتدلة ضد نظام الأسد.
وأما إخوان فلسطين فرأينا تقارب السعودية مع المقاومة، كان أظهر ملامحه زيارة مشعل للسعودية، وتأكيد إسماعيل هنية على دور سعودي حيوي للتقريب بين الفصائل الفلسطينية.
وحتى في مصر، لم تتخذ الحكومة السعودية في عهد سلمان موقفا عدائيا مع إخوان مصر، وهناك عدد غير قليل منهم دخل السعودية فرارا من بطش النظام الانقلابي، بل يُحسب للملك سلمان قوله السابق أن الرئيس مرسي له الحق في أن يأخذ فرصته الكاملة.
وأما اللغط المثار حول الدعم السعودي المادي لمصر، فقد أكدت مرارا على أن السعودية تتعامل مع مصر الدولة، لا أشخاص النظام، وتسعى لتجنيب مصر التخندق في المعسكر الإيراني الروسي السوري، وهي تحديات ضخمة لا ينبغي التعامل معها بإسفاف.
وحتى على مستوى النخب والشخصيات الإخوانية البارزة، فهناك احتواء واضح لرموز الإخوان، فعلى سبيل المثال تستضيف الشيخ عبد المجيد الزنداني، ودعت سفارتها في الدوحة الشيخ يوسف القرضاوي إلى احتفالية اليوم الوطني السعودي، ما اعتبرته وسائل إعلام غربية مؤشرا على تطور العلاقات بين السعودية والإخوان.
بل من نظر إلى وضع الإخوان في السعودية، ومن خرج من عباءتهم كالتيار الصحوي أو ما يطلق عليه البعض “السروريين”، يدرك أن المملكة تسعى لاحتواء التيارات الإسلامية المعتدلة النائية عن التكفير والتطرف والعنف.
واليوم تنطلق دعوات ليبرالية من داخل المملكة لملاحقة ومطاردة وإقصاء الإخوان في الداخل، واعتبارهم أخطر من “داعش”، وهو ما انتقده الإعلامي السعودي جمال خاشقجي بشدة في إحدى مقالاته.
فيا أهل الإنصاف كيف تقارنون بين الإخوان الذين ظلوا عقودا منذ نشأتهم ينتهجون السلمية، بتنظيم “داعش” الذي يُطلق شبابه بالأحزمة الناسفة هنا وهنالك في ديار المسلمين؟
لن أتحدث عن شواهد تاريخية على سلمية الإخوان، لكنني أسوق شهادةَ شخصيةٍ سعودية رفيعة، وهو وزير الداخلية الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز رحمه الله، منذ حوالي 12 عاما.
ففي سياق حديثه الذي انتقد فيه الإخوان، ذكر أن هذه الجماعة كانت من أوائل قُوى الإسلام السياسي في دخول السعودية، وأنه لا أحد منهم تورط في العنف، وإن وُجد من تورط فعددهم محدود جدا لا يكاد يُذكر.
فهي شهادة حق لرجل كان ينتقد الجماعة، وبالتالي لا يسوغ رفضها أو التشكيك في حقيقة مضمونها.
بل يجب ألا نغفل عن البيان الذي أطلقه الإخوان المسلمون بالمملكة، يدين محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية الأسبق (ولي العهد الحالي).
إنها مرحلة من لا يسعى فيها من الأمة إلى التلاقي مع الآخرين في المشترك والمتفق عليه، فهو يبدد الجهود، وإنه بذلك ينأى بنفسه عن الواقع الذي يشهد تكتلات بين قوى الشر رغم الاختلاف فيما بينها.
المصدر | عربي 21