تستعر الدماء في عروق الشعوب إذا ما أصابها ضيمٌ أو جَثَمَ على صدرها احتلال، حتى وإن زُرع في جسد الوطن وسميَّ نظاماً، أو عبر إليه من وراء البحار وأُطلق عليه استمعاراً، تتشكل الثورة عادةً في لحظة صراع بين حاضر يولد من رحم الظلام وبقوة، وبين ماضٍ بائسٍ يستميت من أجل البقاء، وهذا التوصيف يمكن إطلاقه على المرحلة التي انطلقت فيها ثورة 26 سبتمبر والتي كانت تحولاً فجائياً لكل المفاهيم، فكانت انفجاراً تاريخياً مدوياً في بهيم ليلٍ صنعته الهاشمية السياسية في سماء اليمن من خلال إغلاقها لكل نوافذ النور وهدم كل منارةً للتنوير ودارٍ للعلم، بل وعززت قوائم الخرافة والجهل بين القبائل الموالية لها، والتشكيك بإسلام وولاء القبائل والمدن المناهضة لخرافاتها، وفعلت باليمن مالم يفعله احتلال في شعب من شعوب الدنيا.
كانت معاناة أجنحة الثورة وقادتها بقدر الجهل الذي شاع في حينها للسبب ذاته في أوساط المجتمع الذي استمات مع نظام الإمامة من منطلق الدفاع عن الدين وحفظ الكرامة وانطلت عليه مقولة أن الثورة "امرأةً جاءت لتحكم شيخ القبيلة وأنها ضد الدين وحرق القرآن"!! تلك الخرافة التي أطلقها نظام الإمامة وأعوانه من السلالة ومن دار معها، جاءت كنتاج لعناصر ثقافية أثرت على اصطفافهم الثوري والوقوف على النقيض منها.
وبرغم تحطيم الثورة لقداسة الحاكم الذي لا يُمس، وفكرة خرافة الحق الإلهي في الحكم إلا أنها لم تعط حقها في القراءة والانصاف بسبب اختزال المشهد في شخوصٍ ركبوا موْجها دون أن يحملوا فكرها وهموم تحقيق أهدافها مع من عادوا من فلول الإمامة لاحقاً.
فَظلَّ الصراع قائماً على أشده بين فكرة الماضي التي أعاقت الانتقال نحو المستقبل والتي لم تنته بانتهاء حكم الإمامة بعد النصر الذي تحقق بِعُسرٍ شديدٍ وبين فكرة قيام الثورة الحقيقية التي ظلت تتأرجح بين مفاهيم الدولة والقبيلة والعرف والقانون وشكل الدولة، وكيفية ممارسة السلطة وتطبيق مبدأ العدل بين طبقات المجتمع دون تمييز على أي أساس.
وبرغم ذلك لم تغب شمس ثورة 26 أيلول عن الشعب كليةً، لأن مفاهيما وأهدافها كانت قد ترسخت في الذاكرة الجمعية للمجتمع اليمني ودبت رويداً رويداً في عروقه ولا زالت ذات سلطة في النفوس، حتى رأينا اصطفاف أغلبية شباب اليمن بمن فيهم أبناء القبائل، ضد منطق الرعية والضعفاء المتجسد في مشروع الإمامة العائد من جديد، وإن ناكف بعضهم قبل تنمُّرها وقبيل اجتياح صنعاء ملتفاً بعباءات الجمهورية، إلا أنه كان تناكفاً سياسياً في إطار الثورة حيث لم يضبطوا حساباتهم في توقع احتمالية إمكانية تغلب فلول الإمامة عليهم، حتى أُخذوا على حين غرة، نتيجة لضعف الوعي بطبيعة التحولات الاجتماعية التي أحكمت الهاشمية السياسية غزوها فخرجت عن المألوف إلى فضاءات أسوأ محدثةً مالم يتوقعه العقل.
وذلك الذي حدث عَقِبَ الثورة المضادة التي تصدت لعجلة التغير وكبح جماح ثورة الشباب السلمية 2011م، غير أن نتائج تعثرها انعكس على مسارات ثورة 26 سبتمبر الثورة الأم وتشويه بنيتها الاجتماعية والتاريخية لأن هوية الانتفاضة الجماهيرية عندما انطلقت كانت تروم تحقيق استكمال أهداف سبتمبر ومحاسبة عقود من الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي مارسته الأنظمة المتعاقبة بعدها.
تلك الممارسات للأنظمة المتعاقبة شمالاً، مارسه الاحتلال البريطاني الذي جَثمَ على جنوب الوطن وتغنى الثوار بالتحرر منه، وللتاريخ أنه لم يكن أسوأ قبحاً وفداحة من حكم الإمامة في الشمال حيث كانت له آثاره في البنية التحتية ومساحة الحرية والفنية والأدبية التي أفسحها لأبناء اليمن ثواراً ومثقفين وفنانين في مدينة عدن من شماله وجنوبه، الأمر الذي لم يحققه عنوةً احتلال السلالة للشمال كي لا يذُق اليمنيون للحرية وللكرامة الإنسانية طعم.
والغريب هنا أن البعض في الجنوب بات يتغنى بمآثر الاحتلال البريطاني كما تم التغني من البعض الآخر بعودة غبار التاريخ من كهوف صعدة وظلامه في الشمال، وصفقوا لعودتها على أمل التخلص من قوى كانت سيصلحها التطور، ويذيب جليدها العلم لأن الخلاف بين اليمنيين كان سياسياً لا دينياً أو عرقياً، بخلاف ما أحدثته الهاشمية السياسية من طمس للهوية عن طريق تحريف المناهج ومصادرة العقل عبر المنابر والدورات الطائفية.
إنه غزوٌ من جديد واحتلالٌ بلونٍ آخر، غرسوه في غفلة من تاريخ اليمن الشامخ بمآذنه وخيل جيوشه، ورحم الله الرائي شاعر اليمن البردوني الذي شعر بمخاطر الغزو من الداخل في بكور عمره فقال.
فظيع جهل ما يجري * وأفظع منه أن تدري
وهل تدرين يا صنعا * من المستعمر السّري
غُزاةٌ لا أشاهدهم * وسيف الغزو في صدري
وفي عَود احتـلال الأمـس* فـي تشكيـلـه العـصـر
غـزاة اليـوم كالطاعـون * يخفـى وهـو يستشـري
ومـن مستعـمـر غــازٍ * إلـى مستعمـر وطـنـي