الوعي والحرية

2021/04/22 الساعة 10:11 مساءً

 

بقلم : عثمان الأهدل ...

يتحدث الكثيرون عن الوعي والحرية من منطلق تعريفي، ولم يتطرق أحدٌ - على حد علمي- إلى العلاقة الوثيقة التي تربطهما إلا قلة، رغم أهمية هذا المحور في حياتنا، ومدى التصاقه بتصرفاتنا وقيمنا. 
والخوض في هذا الموضوع ليس سهلا نظرًا لتشعبه، ولكن ما ندركه على مر الزمان أن فقدان الوعي بين الشعوب قرة عين الطغاة والمستبدين، على خلاف ما دأب عليه سيد الأنام صلوات الله عليه في فتوحاته التي لم تهدف إلى إرغام الناس على اعتناق هذا الدين، وإنما كانت لفتح الطريق أمامهم للتعرف على الإسلام، وتحريرهم ورفع الظلم عن كاهلهم، وبناء أرضية أكثر خصوبة تسودها الحرية، لتعطيهم مساحة للتفكير والاختيار بقناعة، تصديقاً لقول المولى عزوجل:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون الآية 6].

ويعتقد كثير من الناس أن معنى التحرر من العبودية يقتصر على التخلص من سيطرة الآخرين، بل التحرر الحقيقي يكمن في تحرير عقولنا من شوائب التفكير التي تكبل طاقاتنا وتجعلنا أسرى التوجس. 
ومن المؤسف أن الإنسان هو من يرمي بنفسه في أحضان من يقومون باستغلاله كيفما يشاؤون، ولا سيما عندما يقيد حريته بأغلال المغريات التي تجعله عبداً يخدم غاياتهم بغض النظر عن حرمتها أو حلالها. ولا شك أن الانقياد وراء تلك المغريات قد يفضي به إلى تعريض ذاته للاستغلال، الذي قد يصل إلى حد إلغاء شخصيته.

انتشار الوعي بين الشعوب يجعلها أكثر استعداداً لمواجهة التحديات التي تقيد حريتها وتجعلها فاقدة لهويتها، ولا سيما عندما يكون ذلك التحدي ناجما عن تسلط استعماريٍ بغيض، الذي لطالما عمد إلى طمس هوية المهزوم بنشر الفساد والانحلال. فقد قام الاحتلال في أوطاننا بنشر الأفكار المضللة بين الناس بعد أن فقد الأمل في تثبيت أقدامه، وأدرك أن احتلاله التقليدي لن يصمد طويلا في ظل انتشار الوعي. 

والعلاقة بين الحرية والوعي هي علاقة مطّردة ومتوازية لا يمكن فصلها. ويربط البعض الوعي بكثرة الشهادات العلمية، ولا شك أن التحصيل الدراسي له دوره في تنشئة الوعي، إلا أنه ليس نتيجة حتمية لزيادته، ولا يخفى على أحد أن الكثيرين من حملة الدكتوراه تصرفاتهم مخجلة تحط من قدرهم، وتعبر عن قلة وعيهم، وتتنافى مع ما يحملونه من إرثٍ حضاري اكتسبوه عن الآباء والأجداد.

الفكر المتحضر لا يتأتى بحصد الشهادات وحدها، بل يأتي بالتبصر، الذي لم يعد يتصف به سوى قلة مع الأسف، وإلا لما آل حالنا إلى ما نحن عليه، ولقد أدرك فتية الكهف لزوم هذه الصفة لمواجهة المحن والشدائد، فدعوا ربهم: {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف الآية 10].
والبصيرة هي ما يدركه الإنسان من خفايا خلف جدران الكلمات ومآلات مقاصدها، التي لا تظهر إلا لأصحاب الإدراك الواعي والمتخطي لحدود تفكير العوام، ولن يتأتى ذلك إلاّ بالقراءة المستمرة في شتى مجالات الحياة، وبالأخص المداومة على قراءة كتاب الله وتدبر معانيه بتمعنٍ تامٍ، وفهم الأحاديث الصحيحة لسيد الأنام صلى الله عليه وسلم، فهماً حقيقياً لما تحمله من حكم، لا أن نسردها كالببغاوات دون إدراك معانيها، حتى لا نكون كمن قال الله فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.[الجمعة الآية5]. 

وما أود إضافته لما سبق، أن الوعي مفتاح الأبواب المغلقة على ضياء المعرفة، فالمعرفة كلما ازدادت أبوابها انفتاحاً، كلما ازداد الإنسان تحررا من أغلال العبودية الثقافية القاصرة التي تحجّره في فكر مؤطر محدود. 
وإذا أردنا توصيفًا أكثر دقة للوعي، فهو ضياء ينفذ من خلال ثقب في نافذة يزيد انفراجه كلما زادت غزارة المعرفة والاطلاع، فتُرى الحياة ومآلاتها بنظرة شاملة، ولهذا أرى أن الوعي درجات لا ينتهي المرء من الارتقاء فيها إلاّ بانتهاء العمر، ومع كل درجة نعلوا بها إلى قمة الحياة ندرك عبر نافذته الحقائق بنظرة شاملة ترينا ما يوارى خلف تلك القمة من مآلات لا يدركها إلاّ من حرر عقله من تأطير الفكر القاصر.