بقلم/ مصطفى النعمان
أثار رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابق، حيدر أبو بكر العطاس، لغطاً وعاصفة من التعليقات الإيجابية والسلبية على شهادته عبر برنامج "الذاكرة السياسية" على قناة "العربية" مع الإعلامي اللامع طاهر بركة، التي أذيع منها ثلاثة أجزاء حتى الآن، وهي تحمل أهمية تاريخية وسياسية، نظراً إلى موقع الرجل في قمة هرم السلطة في اليمن الجنوبي ثم اليمن الموحّد، إذ كان آخر رئيس في اليمن الجنوبي (24 يناير "كانون الثاني" 1986 – 22 مايو "أيار" 1990) وأول رئيس للحكومة في دولة الوحدة (22 مايو 1990 – 22 مايو 1994).
الذاكرة العاصفة
فتح العطاس ملفات كثيرة وتناول قضايا مسكوتاً عنها، تعرضت لتاريخ الصراع على السلطة في اليمن الجنوبي من اليوم الأول للاستقلال في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967، ومن الطبيعي أنها شديدة الحساسية لأنها تتناول أحداثاً دموية، لا زال كثير من شهودها والمتهمين بصنعها والمشاركة فيها أحياء، وهو ما يعطي شهادته صدقية، لأنهم قادرون على الرد وتأكيد أو تفنيد ما ذكره من أحداث شارك شخصياً في بعضها وسمع عن بعضها الآخر من مصادر، أتصور أنها قوية بحكم المواقع التي تبوأها والملفات التي تمكن من الاطلاع عليها والروايات التي وصلته من الأحياء.
القضية الأخطر، حتى الآن، هي اتهامه بتلميح قوي يصل حد اليقين، للأستاذ علي سالم البيض، الأمين العام السابق للجنة المركزية للحزب الاشتراكي (يناير 1986 – سبتمبر "أيلول" 1994)، نائب الرئيس اليمني السابق (22 مايو 1990 – 22 مايو 1994)، بالضلوع في اختفاء الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي عبد الفتاح إسماعيل في 13 يناير 1986 بعد نجاتهما من حادثة الهجوم التي خطط لها الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد مع عدد من أنصاره، وقُتل فيها بعض أعضاء اجتماع المكتب السياسي للحزب الاشتراكي.
الباب الواسع
الإيجابي في ما طرحه العطاس أنه فتح الباب واسعاً لكل مَن يمتلك معلومات عن التصفيات والاغتيالات السياسية التي طالت العديد من أهم القيادات في الشطرين، ويجب التعامل مع شهادته بجدية وبمسؤولية وإتاحة الفرصة ليدلي الجميع بما يعرفون ويختزنون في ذاكرتهم وملفاتهم.
لا شك أن قائمة أسماء الذين تم إخفاؤهم وتصفيتهم جسدياً داخل اليمن وخارجه طويلة، وإنه لمن الأخلاقي أن يعرف الناس وأُسر الضحايا مَن أمر ولماذا قُتل سالم ربيع علي (1978)، وإبراهيم الحمدي وأخوه عبد الله (1977)، وأحمد الغشمي (1978)، ومحمد أحمد نعمان (بيروت 1974)، وعبد الله الحجري (لندن 1977)، وعبد العزيز الحروي (بيروت 1973)، وماجد مرشد (1992)، ومحمد صالح مطيع (1981)، ومحمد علي الشعيبي (بيروت 1973)، وعبده محمد المخلافي (1969)، وعبد السلام الدميني (1973)، وسلطان أمين القرشي (1977)، وأحمد سيف الشرجبي (1980)؟ ومَن الذي أمر بقتل الشيخ الغادر ورفاقه داخل خيمة الغداء في بيحان (1972)؟ ولماذا اغتيل السلطان محمد بن عيدروس العفيفي وأخواه محمود وفيصل وشُرد غيرهم من السلاطين؟ ومَن أمر وكيف قُتل كبار مشايخ تعز (1978)؟ ومَن خطط وأصدر الأمر بتفجير طائرة الدبلوماسيين في حضرموت (1973)؟.
إن كل هؤلاء وكثيرين غيرهم راحوا ضحية صراعات الحكم وليس من أجل الوطن، وسُفكت دماء كثيرة من دون غضب أو خوف ولا حتى مجرد إعادة تفكير. نعم كانت السلطة هدفاً وحيداً وتمت تغطية كل تلك الأفعال برداء الصراع من أجل الجمهورية في الشمال ومقاومة الرجعية في الجنوب.
ما يجب أن يكون مفهوماً هو أن الشعارات الجميلة عن التسامح والمصالحة تستدعي أن يقوم كل مَن قتل وشارك وتآمر وبرر وأخفى، بتقديم اعتذار يسمح بالعقوبة المعنوية في الأقل، وليس لمجرد إظهار الأمر كتنازل أو منحة ومنة، ومن الخفة السياسية الاكتفاء باتهام العطاس بأنه كان في الماضي جزءاً من النظام الذي مارس تلك الجرائم لأنه تجرأ اليوم بالحديث عنها، وليس مقبولاً أخلاقياً ترديد أن الناس ترغب في ردم الماضي وتجاوزه من غير أن يكون لها حق معرفة الحقيقة التي سيبقى الكشف عنها غائباً ومثيراً للغضب والحنق، ما لم يتملك الذين شاركوا فيها الشجاعة والرجولة للحديث عنها وربما تصحيحها وتعديلها.
درس للأجيال
تعرفت عن قرب على حيدر العطاس وأغلب قيادات الحزب الاشتراكي بعد 22 مايو 1990، ويعترف له الكثيرون بأنه من قلة يملكون كل صفات رجل الدولة صاحب الرؤية، ولم يكن معروفاً عنه التهرب من تحمل المسؤولية في وقت الأزمات التي رافقت سنوات الوحدة الأولى (1990 – 1994) وأسهم بدور كبير في أول محاولة لبناء دولة حديثة، في ما عُرف ببرنامج البناء الوطني الذي لم يرَ النور بسبب الاعتراضات التي رافقت البحث في تفاصيل تنفيذه. كما كان ممَن صاغوا نصوص "وثيقة العهد والاتفاق" التي سبقت اندلاع حرب صيف 1994 التي نسفت أسس الوحدة الطوعية بين الشطرين وأنهت شراكة الحزب الاشتراكي في الحكم.
بعد نيل اليمن الجنوبي الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 بعث الأستاذ النعمان رسالة إلى الراحل قحطان الشعبي أول رئيس لليمن الجنوبي (30 نوفمبر 1967 – 22 يونيو "حزيران" 1969) ورفاقه، ناشدهم فيها ألا يفعلوا "مثل الذين يتخذون من السلطة وسيلة للانتقام والبطش"، وطالبهم بالاستفادة مما سماه "مصارع أشقائنا في شمال الجزيرة"، يقصد العراق وسوريا، "وكيف رجعوا بعد الاستقلال يلعن بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم رقاب بعض، وتمزقوا شيعاً وأحزاباً، ولم يحصدوا سوى الهزيمة تلو الهزيمة والنكبة وراء النكبة". ولم يمر أكثر من عامين حتى كان الرئيس قحطان ورئيس الحكومة فيصل عبد اللطيف الشعبي مسجونَين. وتوفي الأول تحت الإقامة الجبرية (7 يوليو "تموز" 1981)، وجرى التخلص من الثاني في زنزانته (أبريل "نيسان" 1970).
أخيراً، أنا على يقين أنه من الأنسب الرد بهدوء على العطاس في كل قضية سردها إما بالنفي الموثق وإما بالتصحيح، لكن الاكتفاء بالاتهامات المضادة والتشكيك والتهديدات المبطنة لا يليق بمطلقيها، والقول إن العطاس مدفوع من جهات مجهولة لا يجب أخذه على محمل الجد، فالرجل في عمر لم يعد يسمح له استنزافه بتصفية الحسابات والتكسب منها، وسيكون من المناسب فتح كل الملفات المسكوت عنها كما تفعل الشعوب التي تريد بصدق تجاوز ماضيها المؤلم والدامي. هذا إذا أردنا أن تكون درساً للأجيال القادمة.