إن أمة الإسلام هي خير الأمم، كما وصفها الله تعالى، وأخبر عنها في محكم آياته: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].
غير أن هذه الخيرية لم تأتِ من فراغ، وإنما جاءت من نبذها للرذيلة ونشرها للفضيلة وإيمانها بالله، وهو عين ما ذُكر في قوله سبحانه ؛﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
وقد وصفها سبحانه أيضا بأنها أمة يأتي منها الخير؛{الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}[الحج، الآية 41].
ولا سيما أن رسالة هذه الأمة جاءت من المولى خاتمة إلى سيد الأنام ﷺ، نسخت وشملت كل الرسالات الربانية السابقة :{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}[المائدة الآية 3].
رسالة مكتملة الأركان شاملةٌ تغطي شتى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ديانةٌ ربانية اُرسلت من لَّدُنْ خالق الكون وما عليها، لا يَعَزبُ عنه مثقال ذرة.
فالإسلام هو منهاج رباني مكتمل، لم يأتِ ليُداهن أو يُمّيع الحق مع الباطل، ولم يأتِ ليستجيب لنداءات حوار الأديان للتلاقي في نقطة، قد تكون بداية لطريق الانحطاط. والتنازل في المنهج الرباني ولو باليسير هو السقوط إلى الهاوية التي انتشل منها آباءنا مع بداية بزوغ فجره.
وتأكيدًا لذلك فقد أمر المولى نبيه الكريم أن يتبع ويطبق ما يأمره، ولا يتبع أهواء الناس من باب التلاقي وقبول الطرف الآخر ؛{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}[المائدة، الآية 48].
وبناءً عليه يرسخ ذلك المفهوم صاحب الظلال في كتابه "معالم في الطريق" إذ يقول؛{وليست وظيفة الإسلام إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء، ولن تكون هذه وظيفته اليوم، ولا في المستقبل}.
وليس اطلاق الجاهلية ولو على علّاتها أن النظم التي تبنت لبعض التشريعات الوضعية خارجة عن الملة وكافرة اطلاقاً، ولم يكن قصد سيد قطب أن يكفر تلك الانظمة، بل كان محور تركيزه في اسلوب تعاطيها واستنباطها من خارج الاطار الرباني، مما جعلها بعيدة بعد البون عن نصرة الله، وبالتالي فوتت على نفسها سيادة العالم.
وثمة أمرٍ آخر وهو أن التشريعات الربانية ليست حِكرا على المسلمين فقط، بل أنها جاءت لإنقاذ الإنسانية قاطبةً، عربًا كانوا أم عجمًا.
ولو تتبعنا حال دولنا الإسلامية، ولاسيما العربية منها التي تنازلت عن بعضٍ من موروثها الإلهي وتبنت بعض المورثات والشرائع الغربية الوضعية، للاحظنا مدى تدهور حالها وبقاءها متخلفةً اقتصاديًا وسياسيًا بعد أن كانت تسود الأمم، مكبلةً بأغلالِ أفكارٍ استعماريةٍ قديمة عفى عنها الزمن، والتي كانت أحد أسباب اندلاع الثورات العربية الحديثة التي اُطلق عليها بالربيع العربي، ولو أنها تحولت فيما بعد إلى خريفٍ لعدم وجود قيادة وافتقارها لبرامجٍ بديلة تُمليء الفراغ، قبلت فيها بأنصاف الحلول المخدرة، فضاعت مطالبهم بين أروقة الحكومات الطفيلية.
وقد أمرنا الله بنشر دينه ورفع رايته في كل ارجاء الأرض، نحمل للبشرية رسالته لرفع كرامتها وتحريرها من أغلال الجاهلية، حتى وإن لزم الأمر بقتال من يستعبدون الناس ويصدون عن رفع غطاء الجهل عنهم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر فقط على ديار المسلمين، بل هو واجبٌ حتميٌ في كل مكان، حتى وإن كان في ديار الشرك والإلحاد. وإن تعذر ذلك فأقلها أن نكون رسُل خيرٍ ونبراسٍ نعكس صورة الإسلام الحقيقية في تصرفاتنا. وينبغي أن نُعلم البشرية بمدى فائدة التشريعات الربانية لهم، ونُعرّي قوى الشر التي تستعبدهم وتجعلهم حقولاً لتلبية غايتهم الشريرة.
وخصوصًا أن بعض شرائع دولهم اُستمدت من ينبوع الشريعة الإسلامية، قام بنقلها المستشرقين الذين تعايشوا مع المسلمين على مدى قرون من الزمن، مما يجعلها غير غريبة عليهم، ولو أنها غُلفت بعناوين غربية، وهذا جليا في فكرة تكوين هيئة المحلفين في المحاكم الأمريكية التي اُستنبطت من المذهب المالكي في عهد الإمارات في الصقلية في القرن الثاني عشر للميلاد حسب ما نشرته إحدى قنواتهم معترفة بفضل الإسلام في ذلك. وليس ببعيدٍ عن ذلكم في تبني بعض المصارف في أوروبا المصرفية الإسلامية لما رأت فيها من فوائد اُفتقدت في مثيلاتها الوضعية. وقد تتلاقى التشريعات الربانية مع بعض التشريعات الوضعية فكريا التي تماهت مع الفطرة الإنسانية، وهذه تُعدّ من منابع المصدر الإلهي لكونها نابعة من الفطرة التي فطر الناس عليها في بداية خلقهم.
ويقودنا هذا إلى أن نشر القوانين والتشريعات الإسلامية من منطلق عملي علمي قد يحوز على القبول، وقد يكون هو المدخل الأنجع لبسط شريعة الله، حتى وإن تطلب الأمر محاولة اقناع كل منظمة أو هيئة على حدا. وهنا يجب أن نفرق ما بين جعل الناس يعتنقون الدين وبين نشر شريعة الإسلام لتكون المحكومية لله في الأرض، فائدةً للبشرية جمعاء بغض النظر عن معتقدهم الديني. فالهداية تأتي عندما يهيء لها الأرضية الخصبة التي تُضّيق على أهل الباطل مداخلهم إلى البشرية، حينما يدركون أن شريعة الله هي الشريعة الحق والتي ينبغي لها أن تسود.
ولاسيما في ظل هيمنة أنظمة وضعية متحررة تدعو إلى الحياة البهيمية لا تقيدها ضوابط أخلاقية، تَهيمُ بالإنسانية في غياهب الجهل والضياع، جعلت الشعوب تسأم تلك الحياة، وتبحث عمن تجد فيه الطمأنينة والاستقرار الروحي. فإن الشعوب الغربية تدرك تماما أنها ليست على وأمٍ مع نواميس الكون وأن هناك فراغ روحي يجعلها تبحث عن البديل، ولولا مدافعة أهل الباطل لديننا الحنيف، وخور أمتنا واستسلامها لحياة الدعة و انغماسها في وحول مغريات الغرب، لكان لرقعة الإسلام حظاً أوفر ولانتشرت رايته في شتى بقاع الأرض، ولكن الأطماع البشرية لا تعي في غالب الاحايين ما يصلح لها، وتصغي إلى الأصوات التي تخدم غايات حفنة، ترى في الشعوب خدماً لها وعبيداً.
والإسلام يشكل لهذه الحفنة عقبة إلى حد الهلع، خشية على امبراطورياتها الباطلة من الزوال، والتي بُنيت على أنقاض البشرية، ومتى ما وعت هذه البشرية تصبح هذه الحفنة التي تمتص خياراتهم أثرًا بعد حين. والإسلام رسالته الأولى هو تحرير الناس وتوعيتهم لكسر أغلال هذه الحفنة الطفيلية ودحرها. ولهذا أصبح علماء الإسلام وخطباءها النجباء الذين نجحوا في دغدغة عواطف الشعوب، مستهدفون من قبل هذه الحفنة المتمثلة في الصهيونية، لإبقاء الشعوب جسداً هامداً تُحركهُ شياطين الإنس والجن. ولنكن على يقينٍ تام فمهما طال حبل الباطل فإنه يأتي يومٌ وينتهي، وتسقط معه كل الأباطيل والأساطير المزيفة، التي استمدت قوتها من استبداد الجهل على معتقدات الشعوب.