تتغير الظروف وتولد مسارات سياسية جديدة، ويظل الإنتقالي يتصرف بنفس منهجه منذ تشكله قبل خمسة أعوام. فيما مضى كان يقود انقلابًا ضد مؤسسات الدولة ثم لا يكف عن مطالبتها القيام بمسؤولياتها، يقاطعها ويستمر في الشكوى منها. مؤخرا حدث تغير شامل في هيكل المؤسسة الرئاسية وصار الإنتقالي عضوا أساسيًا فيها. بدأ الأمر كما لو أننا أمام قطيعة شاملة مع النهج القديم لجميع القوى السياسية، أو هذا ما هو مفترض أن يحدث.
حتى اللحظة تبدو كل مكونات المجلس الرئاسي تتحرك وفقًا للمتغير الجديد ولديها استعداد مبدئي للتناغم مع المسار السياسي المختلف، غير أن المجلس الإنتقالي يظل الطرف الوحيد تقريبًا، الذي يتصرف بنفس صبيانيته المعهودة. الأمر لا يعود لاختلاف موقعه وظروفه وطموحاته، بقدر ما هو عجز بنيوي وتشوش في رؤيته السياسية بشكل عام.
نحن أمام مجلس يبني سياساته وفقًا لدوافع مضطربة ولا يدري ما الذي يريده وما الذي يتوجب فعله لبلوغ هذا المراد. إنه يعرف ما لا يريده، ونحن نعرف ذلك من خطاباته المكررة وترديد شعاراته ضد الكيان الوطني العام للدولة اليمنية. لكن هذا الموقف السلبي تجاه الكيان الوطني للدولة، لا يكفي وحده كقاعدة سياسية موجهة لرؤيتك. أنت ترفض الوحدة، وأنت عاجز عن الإنفصال. كنت ترفض هيكل المؤسسة الرئاسية وتبرر تمردك ضدها بكونها خاضعة لسيطرة طرف وحيد، ثم تغير الأمر وصرت طرفًا فيها، وما زلت تمارس نفس مراوغتك. ماذا يعني كل هذا..؟ لا شيء، سوى أننا أمام جماعة صبيانية حديثة العهد بالعمل السياسي المنظم، وتتحرك بمزاجية متقلبة، فلا هي قادرة على حسم أمرها ولا تتيح للدولة أن تفعل.
يعتقد الانتقالي أن بمقدوره أن يواصل هذه اللعبة دون أن يتحمل أي مسؤولية عن طبيعة اشتغاله. هذا ليس ذكاءً في طريقة اللعب، بل تدمير لأي ثقة سياسية كان ممكن أن يكتسبها فيما لو انتهج خطًا سياسيا ذو قدر من الثبات. إنه لا يفرق بين التكتيك والاستراتيجية، يتلاعب في اللحظة التي يتوجب فيها أن يفعِّل المبدأ الاستراتيجي، والعكس يحدث أيضًا، يتصلب في مواقف تكتيكية عابرة. إنه حائر ومرتبك، وهذا أسوأ من القدرة المنظمة على المناورة والخديعة.
يمكننا تقبل طريقة اشتغال سياسي، ذات قدر من الذكاء والكفاءة في المناورة؛ لكن التعامل مع فصيل ردود أفعاله غارقة في العشوائية والمواقف المنفلتة، فهذا عمل مرهق، يجعلك في مواجهة، فصيل يتحكم برسم سياساته، عقول تعاني من اختلال نفسي، ويصدر عنها سلوكيات ذات طابع مباغت وفجائي، وبما يخرب اللعبة بكاملها ويغدو التحالف معها عرضة للإنهيار بأي لحظة. يرهقك ويرهق نفسه، وبهذا لا يمكن للمجلس الرئاسي التوصل لشيء طالما كان يشتغل وبداخله فريق بهكذا طبيعة سياسية وبهذا نهج مختل.
لا يمكن أن ينجح الهدف المرحلي المتمثل في تعزيز قواعد الدولة ومؤسساتها؛ كي تنجح في مهمتها بالضغط على جماعة الحوثي وتقوية مركز الشرعية مقابلها، ما دام لدينا فصيل، يتموضع في قلب مؤسسات الدولة ويعرقل محاولتها لترتيب أدواتها وأوراقها. ويبقى السؤال: هو في مستوى قدرة وكفاءة رئيس المجلس في تقليص قدرة الإنتقالي على العبث وتجريده تدريجيا من أدواته التي يستند إليها في وضع عراقيله.
عبث الانتقالي المستمر ومن خلفه الممول والداعم، ليس حتمية نهائية. بمعنى أن بمقدور الأطراف الحاملة لفكرة الدولة والداعمة لتعزيز الكيان الوطني العام، أن تتوحد أكثر، وتراكم أدوات قوتها تدريجيا وصولا للحظة التي يتمكنوا فيها من تفكيك هذا اللغم المغروس في قلب الدولة والمعيق لتقدم مسارها. فالجنوب ليس قطعة أرض مملوكة له ولا هو الطرف المحتكر لتمثيلها. هو عضو جوار ثلاثة أعضاء أخرى تمثل الجنوب وأربعة تمثل الشمال، وفيما لو كانت كل هذه الأطراف أشد تجانسًا، سيغدو الإنتقالي طرفًا معزولا ووحيدا، وتنتهي سياساته لتجريده حتى من امتيازاته التي نالها بموافقته الشكلية على الدخول في العملية السياسية الجديدة. بهذا هو سيخسر لافتته التي يشتغل تحتها وسيخسر صفته الوطنية العامة التي كان ممكن أن يعزز اكتسابه لها فيما لو تعامل بنهج سياسي ثابت وتخلي عن مراهقته المضحكة.
الخلاصة: باعتقادي، الأمر لا يعود، فقط، لهشاشة الانتقالي كفصيل يفتقد للثقل الذاتي والتقاليد السياسية الناظمة للنهج. صحيح أنه كذلك، وبقدر ما ينبعث ذلك من طبيعته الذاتية، لكنه أيضًا يعود ويتطابق مع دوافع إقليمية تغذيه وتتماثل معه. فالإمارات، ولئن كانت قد وافقت على تدشين المسار الجديد، لكنها لم تفعل ذلك انطلاقا من قناعة نهائية توصلت لها، وتأكدت بواسطتها من عبثية نهجها السابق. بل العكس تمامًا، تقبلت المسار الجديد ودفعت نحوه، كمرحلة أولى تهدف بواسطتها لتحييد خصومها وخفض نفوذهم تدريجيا، مع استمرارها بدفع أدواتها لمواصلة نهجهم نفسه. وما يؤكد هذا هو الحنق المبكر لعضو الإنتقالي في المجلس الرئاسي، دون مبرر. حتى أنه لم يترك للمجلس أن يكمل شهوره الأولى؛ كي يبدأ بالمراوغة معه، ما يعني أن النهج ذاته كان مبيتًا، وبوجود، مبرر من عدمه، سيظل الإنتقالي عامل إقلاق متعمد ما لم تُجمع الأطراف على حسم طريقتها في التعامل معه بكل الطرق الممكنة بما في ذلك صياغة نظام داخلي للمجلس الرئاسي، يتضمن محددات صارمة لطبيعة أدوار المجلس والتزامات ينجح بموجبها من لجم أي سلوك سياسي عشوائي ومنفلت لأي طرف من أطرافه.
** رئيس مركز هنا عدن للدراسات الاستراتيجية