خَالَطَ بني أُميةَ الإمامُ المُحَدِثُ الزهري، فكتب إليه أخٌ له في الدين: "عافانا اللهُ وإيّاك من الفتنِ، فقد أصبحتَ بحالٍ ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك... واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت، وأخفّ ما احتملت أنّك آنَسْتَ وحشةَ الظالمِ، وسَهَّلتَ سبيلَ الغيّ بدنوّك ممّن لم يؤدِّ حقّاً ولم يتركْ باطلاً حين أدناكَ، اتّخذوك قطباً تدورُ عليك رحى باطلِهم، وسلّماً يصعدون به إلى ضلالهم، يُدخلون بك الشكّ على العلماء، ويقتادون بك قلوبَ الجهلاءِ، فما أيسرَ ما عمّروا لك في جنبِ ما خرّبوا عليك، وما أكثرَ ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك، فداوِ دينَكَ فقد دخله سقمٌ، وهيئ زادَكَ فقد حضرَ السَفَرُ، وما يخفى على اللهِ من شيء في الأرضِ ولا في السماءِ، والسلام". - قلتُ: هذا وهو الإمامُ المحدثُ الثقةُ محمدٌ بنُ مسلم الزهري، أَخَذَ عِلْمَهُ عن خيرِ قرونِ هذه الأمةِ، صغارِ الصحابةِ وكبارِ التابعين. وهو ممن اتَّفَقَ أئمةُ الجرحِ والتعديلِ على توثيقِهِ. فكيف بمن لم يحوزوا اليومَ مِعْشَارَ علمِه وفقهه في السُنَّةِ والعنايةِ بها، ثم يَرْكَنُون للطغاةِ ويلزَمُون جانبَ المسؤولِ الفاسدِ، بحجةِ إصلاحِ شأنِه والنُصْحِ له، فَيُفْسِدُ عليهم دينَهُم ودنياهم، بالفُتَاتِ من العطايا والهباتِ، وزيفِ الألقابِ والمُسَمياتِ، فلا يلبثون بالمقابل إلا أن يسيروا في ركابِهِ مبررين له بالفتوى طغيانَهُ وفسادَهُ في حقِ الأُمةِ، وبالخُطَبِ ظُلْمَهُ وجُورَه في حقوقِ العبادِ، وبالقَلَمِ كُلَّ قانونٍ يَسُنُّهُ. - وهذا وَهُمْ بنو أُمَيَّةَ فاتحو الأمصارِ شرقا وغربا، ومَنْ سَادَتْ بجهادِهِمْ كلمةُ التوحيدِ وشريعةُ الدينِ. فكيفَ بِمَنْ يُدانِي ملوكَ وحكامَ اليومَ وهم مَنْ خذلَ الأمةَ ونَكَّسَ بيرقَ الجهادِ، ثم يظنون بعد ذلك أنَّهم يبذلون النصحَ ويسددون العملَ ويحفظون الدعوةَ. وكم مِنْ نماذجَ نراها اليوم لعلماءٍ ودعاةٍ مرموقين قد انحطَّ قَدْرُهُم وأفَلَ نجمُهُم بملازمتهم السلطانِ والحكامِ، جاعلين من أنفسِهِم شماعةً لضلالهم وسندا لباطلِهم، مُذَلِّلِينِ لهم كل عائقٍ يعرقلُ أهدافَهُم المشبوهةَ ومخططَهُم المشينَ. فكيف ساغَ لرجالِ علمٍ ودعوةٍ ذلك، وقد حَذَّرَ اللهُ من عاقبةِ الركونِ (المَيلُ اليسيرُ) للظَلَمةِ فقال عزَّ وجلَّ: "وَلَا تَرْكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ". تحذيرٌ من السيرِ في هواهم وباطلِ أعمالِهِم، ومَدْحِهِم بما يُعَظِمُ شأنَهُم ويؤَيدُ نهجَهُم. وبتتبعِ واستقراءِ ركونِ العلماءِ والدُعَاةِ فرادى وجماعاتٍ للحكامِ نجدُ جليا مدى خَسَارَتِهم، أكانوا شركاءَ في الحكومةِ أو المجالسِ النيابيةِ أو مستشارين لهم. فقد جَبِلَ الحاكمُ على استخدامهم جسرا لتمكينه من السيطرةِ التامةِ على مفاصلِ الدولةِ، وقوةً ضد خصومِهِ يحققُ بهم أهدافَهُ، من خلال مكانتِهِم في المجتمعِ، وانضباطِ وطاعةِ روادهم لأوامرِ قادتِهم، وفتاوى مرجعياتِهم العلميةِ دون ترددٍ، وحتى دون تفكرٍ في عاقبتهم لما بعد تَمَكُنِ الحاكمِ وتمكِينِه، وقَلِبِ ظَهْرِ المَجَّنِ لهم. وما تجاربُ مصرَ واليمنِ وتونسَ وغيرهم إلا نماذجَ لما أُريدُ التحذيرَ والحذرَ منه مستقبلا. أما اليوم فقد وقعَ الفأسُ في الرأسِ.. وهناك ملأٌ منا مازالوا يرددون بِوُهَنٍ لا بأسَ لا بأسَ. فأقولُ "طِبْتُم أهلَ غَزَّةَ وبُورِكَتْ مقَاوَمَتُكم وحماس".
أبو الحسنين محسن معيض