‏سلطنة عمان: حكاية جبل يرفض أن يكون سحابا

2025/02/16 الساعة 06:21 صباحاً


‏كامل المعمري
‏ليست سياسة الحياد العماني مجرد خيار دبلوماسي بل  ضرب من الجنون المقدس وسط من يبيعون الضمائر بالجملة... جبل صلد يقف في وجه عواصف التبعية التي تجيشها إمبراطوريات الرمال الحديثة...الجنون الذي يسميه البعض "الحياد" هو ما جعل سلطنة عمان هدفا لسهام مسمومة تطلق من خلف الجدران الزجاجية في أبوظبي والرياض.....
‏ إنها حرب على معنى أن تكون إنسانا قبل أن تكون تابعا، أن ترفض أن تصفق للدم حين يصرخ الضمير بأن الحرب ليست حلا.

‏منذ أن أدارت مسقط ظهرها لمسرحية الاتحاد الخليجي ذاك الوهم الذي كان سيحول المنطقة إلى قطيع يقاد بصفارة واحدة بدأ الغضب الإماراتي السعودي يتسرب كالزيت الثقيل فوق مياه العلاقات لقد كانت مسقط شاهدا صامتا على فشل الآخرين في اختراع عدو يجمعهم. لهذا كان لابد من تحويلها إلى عدو، أو على الأقل إلى "صديق خائن".

‏اليمن هنا هو الجرح النازف الذي تحرك فيه عمان إبرة الضمير، بينما يغرف الآخرون من دمه ليرسموا خريطة نفوذ جديدة
‏حين فرضت دول "تحالف العدوان" حصارا على أبواب السماء والأرض على اليمنيين، فتحت عمان نوافذها وابوابها ... وحين حولوا الحرب إلى مزاد لشراء الذمم، رفضت مسقط أن تكون سمسارا وذهبت أبعد من ذلك، جعلت من نفسها جسرا للسلام لا للموت. لكن صناع الحرب لا يحبون الجسور، إلا تلك التي تمرر فوقها الأسلحة.

‏الادعاءات بأن عمان "تسلح الحوثيين" تشبه اتهام النهر بأنه يبلل ظمأ العطشى! فمنذ متى كان الحياد جريمة؟ ومنذ متى أصبح رفض المشاركة في قتل الجيران خيانة؟ لقد حولتها آلة الإعلام الخليجي إلى شيطان لأنها لم تسبح باسم "التحالف"، ولأنها تجرأت أن تقول للقاتل يكفي. حتى شبكة التجسس الإماراتية التي كشفت في مسقط عام 2018 لم تكن سوى ورقة توت سقطت عن عورة من يصدقون أن الجوار حق يورث، لا جدار يهدم.

‏الحياد العماني ليس خوفا من المواجهة، بل هو مواجهة مع الخوف نفسه وإصرار على ألا تكون الأرض العربية ساحة لتصفية الحسابات الإيرانية الأمريكية، أو لعبا بين أمراء تحولوا إلى وكلاء لبيع الأزمات.

‏فحين وقفت عمان ضد حصار قطر، وانتقدت ضربات أمريكا على اليمن، ورفضت التطبيل لحرب غزة، كانت تزرع بذور ثورة هادئة ضد انتهازية السياسة. لهذا يهاجمونها لأنها تذكرهم بأن الموقف الأخلاقي لا يباع في سوق النفط.

‏حتى الوساطات العمانية في اليمن، التي أنجزت هدنة 2022 وفتحت أبواب المفاوضات، لم تسلم من التشويه. قالوا: "عمان تتدخل ضدنا" وكأن صنع السلام تدخلا، بينما إطالة الحرب "دفاع عن ما يسمونها الشرعية" لكن التاريخ لا يكتب بأقلام المرتزقة، بل بدم الذين يقاتلون من أجل الحياة. عمان تعرف أن جثث اليمنيين ليست سلم ترقيات لضباط التحالف، وأن دموع أم فقدت ابنها لن تجففها دولارات النفط.

‏هذه الحملات لن تتوقف. فـ "الحياد" يشعر الطغاة بالخطر، كأنما بصلابة عمان مرآة تظهر عورات من يرتدون ثياب الأبطال فوق أجساد مهترئة. لكن الجبال لا تهتم بصافرات السيارات العابرة، ولا بالعواصف التي تظن أن بإمكانها اقتلاعها.

‏عمان كالجبل ثابتة في قيمها، صلبة في مبادئها، وكلما اشتدت الرياح، ازدادت يقينا بأن السحاب  مهما علا لن يصير إلا مطرا. والمطر لا يهزم الجبال، بل يغسل عنها غبار التهم البائسة.