مع تصاعد أحداث العنف والقتل في المشهد العربي بات مألوفا –وبكل أسف- الاستماع إلى أرقام القتلى والجرحى وكأنها أرقام أو أشياء مادية بحتة، وأسوأ من ذلك تفشي الوحشية والتشفي في طرق القتل والتمثيل بالجثث وحرقها، ولكن الغريب أن يكون ذلك منسوبا إلى الإسلام أو ينتهجه البعض تحت ظن منهم بمشروعية ذلك في الشريعة الإسلامية.
وضمن سؤال وجهه أحد الشباب للحبيب علي الجفري عبر صفحته الرسمية في الفيسبوك، قال فيه: أثناء نقاشي مع أحد المتابعين على الفيس بوك، أكد على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قُطعت رؤوس الكفار على عهده ولم ينكر ذلك كما جاء في قصة ابن مسعود مع أبي جهل، وقال الله تعالى: (فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق)، ومبررا لعمليات التمثيل التي تقوم بها بعض التنظيمات الإسلامية في سوريا والعراق احتج بقوله تعالى : فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.. فما رأي فضيلتكم في الأدلة الشرعية التي ساقها الأخ مع الدليل الشرعي؟
وكذلك سؤال مهم، هل قطع رأس أبي جهل ثابت في السيرة أم لا.. وما هو رد النبي صلى الله عليه وآله على ذلك؟
وكانت إجابة الحبيب الجفري على السؤال:
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد :
فجواب ما سألتم عنه حول قطع الرؤوس في الصدر الأول هو أن قطع الرأس وطعن الجسد كان هو الوسيلة المعروفة لقتال العدو في ذلك العصر وفق الأسلحة المتوفرة، وهو ما فعله سيدنا عبد الله بن مسعود بأبي جهل فإنه اجتز رأسه فقتله وأراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للتأكد من كونه عدو الله أبي جهل من حرض على القتال وجيّش كفار قريش للحرب.
أما المُثلة "التمثيل بالجثث بعد قتلها ببتر الأعضاء وتسميل العيون وحرق الأجساد" فهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن يزيد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن النهبة والمُثلة).
وأخرج أحمد و مسلم و الأربعة عن بريدة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين).
ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تُمثّلوا) نهي صريح عن المُثلة.
وأخرج أحمد و أبو داود و النسائي و ابن حبان عن عمران بن حصين مرفوعا : (إن رسول الله صلى الله عليه و وآله وسلم كان يحثنا على الصدقة و ينهانا عن المُثلة).
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحُثّنا على الصدقة، وينهانا عن المُثْلة). رواه أبو داود بسند صحيح
وعن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان أعفّ الناس قتلة أهل الايمان) رواه أبو داود
وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ..) رواه مسلم
وقال الزهري : لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط، وحمل إلى أبي بكر رأس فأنكره، والمراد هنا بالحمل هو النقل من بلد إلى بلد.
وإن أفتى بعض العلماء بجواز المُثلة في حق شخص من ارتكب هذا الفعل على قدر ما ارتكبه دون زيادة، عند الحاجة إلى ذلك بحيث يرتدع الأعداء عن فعل ذلك بجثث المسلمين، وجعلوا ذلك مشروطا بالرجوع إلى الإمام "الحاكم"، أو من باب القصاص، غير أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه رد على من احتج بأن الأعداء قد فعلوا ذلك بما يفيد أن المسلم لا يقتدي بالكافر في خصاله المذمومة.
فعن عبد الله بن عامر أنه قدِم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس يناق البطريق، [من كبار قادة الأعداء المحاربين] فأنكر ذلك، فقال: يا خليفة رسول الله، إنهم يفعلون ذلك بنا، قال: فاستنان بفارس والروم؟ لا يُحمل إليّ رأس، فإنه يكفي الكتاب والخبر). رواه سعيد بن منصور وعبد الرزاق في المُصنف.
ومن المعلوم أن النصوص الصريحة في النهي عن المُثلة تؤكد على قيمة أخلاقية تقوّي بُنية المسلم، كما أنها تؤسس لبناء أمّة تتميّز أخلاقها عن غيرها، لتقود العالم إلى الحق والعدل، فإن المؤمن إذا تساوى مع غيره في تصرفاته القبيحة افتقد الميزة التي تميّز بينه وبين المجرم.
فإذا حصلت بعض هذه التصرفات من بعض المكلومين الذين اشتد عليهم الظلم الفظيع والبطش الشنيع، فينبغي نصحهم وتنبيههم إلى التزام الهدي النبوي الشريف، ففيه النصر والنجح والفلاح.
اللهم اهدنا إلى ما تحبه وترضاه من القول والفعل والنية والاعتقاد وارفع البلاء عن الأمة يا حي يا قيوم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.