مضى عام هجري وأقبل آخر ، وكم هو رائع في هذه المناسبة أن نتذكر هجرة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ، ونتفكر في معانيها و ما رافقها من تضحيات ومعاناة ، فالهجرة لم تكن فقط انتقال للجسد من أرض لأخرى بل كانت هجر للمعتقدات الباطلة والعادات الفاسدة والنظم الجاهلة بجانب كونها هجر للذنوب والمعاصي ، إن الهجرة في حقيقتها ثورة ضد الفساد والظلم وضد العقليات المتحجرة المناهضة للتغير والتحديث .
ما أحوجنا في ذكرى الهجرة النبوية الشريفة أن نستلهم منها قيمها الإنسانية والأخلاقية الراقية المتمثلة في البدل والعطاء و نكران الذات والتمسك بالمبداء مهما كلف ذلك من جهد وعناء ، فقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم البقاء في مكة والحصول على ما شاء من نعيم الدنيا عندما عرض عليه سادة قريش الجاه والسلطان مقابل تخليه عن دعوته لكن ثقته بالله وإيمانه العميق بعقيدته جعلته يرفض كل تلك المغريات ويهاجر لبلد غريبة لا أهل له فيها ولا مال .
لأجل الله وجهاداً في سبيله هاجر محمد صلى الله عليه وسلم إلى بلد جديد ليحيا عيشة جديدة امتلأت بالصعاب والمشاق تاركاً خلفه حياة الاستقرار والراحة .
كانت أول أعماله صلى الله عليه وسلم عند وصوله لوطنه الجديد هو إنشاء مركز للعبادة وإدارة شئون الحكم فبنى المسجد ، ثم عمل جاهداً على تعميق الوحدة الوطنية لرعيته عن طريق المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، بعدها قام صلى الله عليه وسلم بإرساء قواعد الحياة الدستورية للدولة الجديدة مشيداً بذلك أول ديمقراطية حقيقية عرفتها الأرض عن طريق كتابة وثيقة المدينة لتنظيم العلاقات والمعاملات بين أهلها باختلاف عقائدهم وطبقاتهم وكذا تحديد حقوقهم وواجباتهم . فيا ليتنا اليوم نستطيع أن نعيد للمسجد دوره الحقيقي الذي كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فتكون له في حياتنا بصمته السياسية والثقافية والاجتماعية والعسكرية ويصبح هذا المسجد وطن المسلمين و قلعتهم و مدرستهم ، وكم نحن أيضا بحاجة لتحقيق مبادئ الأخوة والسلام فيما بيننا ورص الصفوف ونبذ العنف والكراهية ، وكم نحتاج كذلك لوجود دستور وقوانين ترسخ مبادئ المواطنة المتساوية و العدالة الاجتماعية والحريات العامة .
بفضل الهجرة تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من قيادة ثورة تصحيحية لامست كافة نواحي الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية و الثقافية ، تمكنت تلك الثورة من القضاء على مظاهر العبودية و الاستبداد والطغيان في المجتمع الإسلامي ، ونشرت أفكار جديدة متطورة ومرتبطة بقيم الحرية والشورى والعدل والمساواة والإخاء وحقوق الإنسان و التعايش الديني .
لقد استطاع صلى الله عليه وسلم خلال أقل من عشر سنوات وهي الفترة التي قضاها في المدينة المنورة أن يضع أسس متينة للدولة المدنية الحديثة و يثبت مبادئ جديدة وواضحة نسجت ترابط كامل وفريد بين القيادة المتمثلة بشخصه صلى الله عليه وسلم وبين القاعدة الجماهيرية الشعبية المتمثلة بالمؤمنين مما ساعده على إحداث تغيرات جذرية في المجتمع المسلم ومكنت خلفاؤه الراشدين من بعده من الاستمرار في قيادة الدولة الإسلامية على ذات النهج بفضل تعمق و تجذر أسس دعوته صلى الله عليه وسلم في عقول و وجدان أتباعه .