على ضفاف وادٍ خصيب في محافظة حضرموت شرقي اليمن تستلقي عدد من القرى على هضاب متوسطة الارتفاع، وفيها تتجاور الأطلال والمباني القديمة مع بنايات حديثة لتشكل لوحة فنية فريدة، حيث بقايا منازل كندة وملوكها وشاعرها الجاهلي امرئ القيس شاهدة على حقبة زاخرة بالحياة.
وربما يخال المرء نفسه وهو يمر بين تلك الأطلال بمنطقة دمون الواقعة بمدينة الهجرين التاريخية مرابع الشاعر الجاهلي امرئ القيس أن قوافي هذا الشاعر لا تزال تتردد بين تلك الخرائب ويتجاوز صداها إلى الوادي الفسيح حيث كانت تدور رحى معارك قوية بين قبائل كندة نفسها من جهة وبينها وبين أعدائها من جهة أخرى.
دمون حضرموت حيث بقايا منازل كندة وملوكها وشاعرها الجاهلي أمرئ القيس (الجزيرة) |
منبع الشعر
ودمون أرض زراعية خصبة وهي البوابة والواجهة لوادي دوعن الشهير بإنتاج أجود أنواع العسل اليمني، وقد اتسمت المنطقة منذ القدم بانها كانت مأوى للهاربين من الصراعات القبلية والثارات أو الحروب لموقعها الحصين على التل الجبلي.
وتذكر المصادر العربية أن ملوك كِندة وشاعرها الجاهلي امرأ القيس سكنوا شرقي اليمن ومدينتهم دمون قاعدة مملكتهم، وكانت ربوع دمون وأوديتها الخضراء مبعث شعره وفيها يقول امرؤ القيس:
كأني لم ألهو بدمون ليلة ... ولم أشهد الغارات يوما بعندل
و"عندل" منطقة على مدخل وادي عمد أحد أودية حضرموت الشهيرة قال فيها كذلك:
تطاول الليل علينا دمون
دمون إنا معشر يمانون
وإنا لأهلنا محبون
وفي الجهة المقابلة لدمون جبل "صيلع" الذي ما زال يحتفظ في أعاليه بأخاديد كانت قديما تتخذ كمنازل مسكونة وقيل إن امرأ القيس ذكرها في أشعاره حيث تحكي كتب الأدب أن رجلا من بني عجل جاء إلى امرئ القيس وهو يلهو مع أقرانه ليخبره أن والده الملك قد قُتل فقال حينها:
أتاني وأصحابي على رأس صيلع
حديثٌ أطار النوم عني فأفعما
فقلتُ لعجلي بعيد مآبه
ابن لي وبين لي الحديث المجمجما.
أطلال كندة
وتحوي منطقة دمون الواقعة في مدينة الهجرين التاريخية العديد من المعالم الأثرية وتقع بالقرب من مستوطنة ريبون التي أقيمت على أنقاض مدينة مذاب التي يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام، ويوجد فيها معبد سين ويطلق عليه كذلك اسم معبد القمر.
وقد ذكرها المؤرخ اليمني الهمداني بقوله "الهجران قريتان متقابلتان في رأس جبل حصين يطلع إليه في منعة يقال لأحدهما خيدون وللأخرى دمون"، مشيرا إلى أنه في الهجرين توجد ساقية دمون، وهي أودية دوعن.. وقال: "دمون من حصون حمير بحضرموت".
ويؤكد أحد المؤرخين من أبناء دمون ويدعى أحمد أبو بكر الحاشد للجزيرة نت أن "تاريخ هذه المنطقة يعود إلى ما قبل الإسلام وربما إلى أكثر من 1500 سنة".
ودلل على ذلك وهو يشير بيده صوب منزل قديم بني بالطين تحيط به بقايا أطلال مبان مهدمة بالقول "إن عمر هذا المنزل نحو 300 سنة بينما ما حوله من أطلال هي أقدم من ذالك بكثير".
ثم اشرأبُّ ببصره إلى الأعلى نحو قمة جبل صخري يدعى (صيلع) وقال "هناك كان يعيش الشاعر الجاهلي امرؤ القيس ولا زالت بقايا آثار المغارات التي كانوا يخزّنون فيها الماء والمؤن موجودة".
وكان مواطنون في دمون عثروا قبل أشهر على نقوش وكتابات منحوتة على الصخور كتبت بخط المسند -الخط الأول لعرب جنوب الجزيرة العربية- بالقرب من مياه الينابيع التي يعود تاريخها إلى العصر الجاهلي، وتحدث باحثون للجزيرة نت عن اكتشاف بعض القبور في اتجاه بيت المقدس في دلالة على إمكانية ارتباط المنطقة تاريخيا بظهور الديانة اليهودية.
الارتباط التاريخي
ويشير أستاذ التاريخ في مدينة الهجرين سالمين عمر بن جبل في حديث للجزيرة نت إلى أن كتب الأدب والتاريخ أجمعت أن امرأ القيس أقام بمنطقة دمون (صيلع) وأن الجدل يدور حول تاريخ أول ظهور لهذه المنطقة".
وأضاف أن "هناك بعثة أثرية بريطانية وبعثة آثار روسية زارتا المنطقة ووجدتا عدة آثار تدل على ارتباط هذه المدينة بالعصر الجاهلي، بينما أظهرت دراسات حديثة قبل نحو عامين في عدة اتجاهات الأول يرجح ارتباط الهجرين بسفينة نوح والثاني يرجح ارتباطها بسيدنا لقمان الحكيم".
وقال "إن رئيس مجلس الوزراء السابق عبد القادر باجمال عند زيارته للمنطقة في وقت سابق مع بعثة أثرية ذكر خبير اليونسكو الياباني في البعثة أن هذه المنطقة ربما يكون لها ارتباط بالديانة اليهودية من دول المناطق التي ظهرت فيها الديانة اليهودية.
حياة شاعر
ولا يعرف حتى الآن تاريخ ولادة امرئ القيس ولا تاريخ وفاته، غير أن مولف كتاب تاريخ الشعراء الحضرميين عبد الله السقاف يذكر أن مولد امرئ القيس كان حوالي سنة 38 قبل الميلاد النبوي في نجد بقرية مرات عاصمة مملكة أبيه بجبل عاقل (ديار بني سعد)، وقد نشأ في كنف أبيه نشأة أبناء الملوك.
وفي مرحلة المراهقة علق نفسه بالنساء وكذلك باللهو والخمور، فكره أبوه هذه الحياة وأقصاه إلى ديار طي بنجد ومن ثم أبعده إلى حضرموت بين أهله وعشيرته بمدينة دمون قاعدة مملكة آبائه في أيام الملك مرتع بن ثور وهو في حدود سن العشرين، وأقام بدمون مدة من الزمن متولياً حكمها السياسي والمدني.
ولا يكاد المؤرخون يجمعون على تحديد تاريخ محدد لمولد امرئ القيس ولا لوفاته، وإن كانت بعض الدراسات تعتقد أن امرأ القيس توفي بين عام 530م. وعام 540م، تذهب أخرى إلى أن وفاته كانت حوالي عام 550م، وغيرها تحدد عام 565م. إلا أن قبره يقع الآن في تلة هيديرليك بأنقرة.