قَابَلتُ في الغُرْبَةِ شابا ردفانيا، له اسمٌ مميزٌ "اكتوبر"، وله قصةٌ مؤثرةٌ، فقد حاربَ مع الجيشِ ضد الحوثي في جبالِ صَعْدَةَ، وأُصِيبَ في إحدى المعاركِ، وتقهقرَ الجيشُ تاركاً إيَّاهُ خلفَهُ، فأسَرَهُ الحوثيون، وعالجوا جراحَه، وعلى الجانبِ الآخرِ أبرقت قيادةُ الجيشِ لأهلِهِ نبأَ مقتلِهِ، دونَ ذكرٍ لمصيرِ جثتِهِ ومكانِ دفنِهِ. وبعد سنينٍ أطلق الحوثيون سراحَهَ، ليعودَ متنقلا نحو مسقطِ رأسِهِ. قال: "أقبلت على بيتي مع الغروب، طارقا البابَ. مَنْ؟!. أنا. مَنْ؟! أنا أكتوبرُ، أنبعثت صرةٌ من الداخلِ، فُتِحَ البابُ فجأةً، تعالت أصواتٌ، امتزجت آهاتٌ، تسابقت الدموعُ... سقطت الزوجةُ مغشياً عليها، وتلتها الأمُ في غيبوبةٍ.. قال بحسرةٍ: لم أكُنْ أعلمُ أنَّ قيادَتِي قد أعلنت وفاتي، وإلا لمهدت لهم الخبرَ تمهيدا.. هذا يومٌ عُدْتُ فيه للحياةِ، وكدتُ أن أفقدَ فيه حياةَ أعزِ أهلي". وبعدها قررَ الغربةَ.. فلا خيرَ له في وطنٍ.. أحياؤه أمواتٌ وأمواتُه تراثٌ. تذكرتُ هذا مع خبرِ عودةِ الشابِ الشبواني "ابن الدحبول الخليفي" بعد 11 عاما في سجونِ صعدةَ، لم يكن مقاتلا ولا عسكريا، بل تم أسرُهُ على الحدود اليمنية السعودية.. فتم حبسُهُ بتهمةِ الاشتباهِ فقط. وكم حاولتُ تقمصَ حياةِ ومشاعرِ عددٍ غيرِ قليلٍ من الأُسرِ التي عانت من آلامِ وكَمَدِ فقدانِ أحدِ أفرادِها دونَ معرفةٍ بمصيرِه حيا أم ميتا، ودون تحديدِ موقعِ سجنِهِ ومعتقلِهِ، ودونَ بيانِ جهةِ تغييبِه وتهمتِه. ومهما حاولتُ أن أعايشَ هذا الوضعَ وتلك الآلامَ فلن أستطيعَ أن أَصِلَ إلى ذرةٍ من جبالِ همومِهم أوقطرةٍ من بحارِ معاناتِهم، وهم يتقلبون بين ضيقِ الحسرةِ وسعةِ الفرج، وبين ظلمةِ اليأسِ ونورِ الأملِ، وبين شقاءِ جهلِهم بحالِهِ ومكانِه وبين سعادتِهِمْ بأي خبرٍ عنه ولو كان سرابا.
تلك مأساةٌ يعيشُها وطنُنا وشعبُنا بشكلٍ شبهِ يومي، بما فيها من قهرٍ وشرٍ وضررٍ. كَمْ مُغَيَبٍ في سجونِ ومعتقلاتِ ومقابرِ الحوثيِ والشرعيةِ والانتقالي والتحالفِ، لا يعرفُ ذووهم عنهم شيئا. وكم مفقودٍ لا يدري أهلُهُ له مصيرا، كم زوجةٍ في وطني أضناها السهرُ، وكم أمٍ ثكلى نخرها القهرُ، وكم أبٍ أحنى ظَهْرَهُ الأنينُ، وكم طفلٍ أنهكَهُ لأبيه الحنينُ.. وكم! وكم! في وطنٍ نشيدُهُ الألمُ وشعارُهُ الدمُ. نداءٌ إنسانيٌ أوَجِهُهُ إلى كل القوى الحاكمةِ والمتنفذةِ في وطني، من الشرعيةِ والانتقالي والحوثي والتحالفِ العربي.. أطلقوا سراحَ كل أسيرٍ ومعتقلٍ لديكم، ممن ليس عليهم جرائمُ وتُهَمٌ مُبَرْهَنَةٌ، أغلقوا ملفَ التغييبِ والإخفاءِ، وبَيِّنوا للأهالي مواقعَ مفقوديهم، أحياءً أم أمواتا، حولوا للقضاءِ من ثبتت عليه تهمٌ تخالفُ القانونَ وتهددُ امنَ الوطنِ والمواطنِ، امنحوا كلَ معتقلٍ حقَ التواصلِ مع أهلِه وإعلامِهم بمكانِهِ وحالتِهِ وتهمتِهِ. أعيدوا البسمةَ والفرحةَ لكل قلبٍ عابسٍ حزينٍ من الآباءِ والأمهاتِ والأبناءِ والزوجاتِ.. قدموا لأنفسِكُمْ خيرا، لتنالوا من شعبِكم الدعمَ والدعاءَ، وإن لم تفعلوا فعليكم اللعناتُ في محياكُم والمماتِ.