استطلاع/ فايز محيي الدين البخاري -
نحو منطقة دكسم التي هي موطِن الشجرة الأبرز في جزيرة سقطرى والتي أضحتْ علامتها البارزة وماركتها المسجلة، إنها شجرة دم الأخوين التي تنتشر في كل أرجاء هضبة وجبال منطقة دكسم. وقد جاء في موسوعة ويكبيديا عنها أنها المحمية الساحرة ذات الطبيعة الجبلية, الجو فيها بارد نسبيًا مقارنة بجو الجزيرة الدافئ. وهي محمية تشتهر بغابات شجرة دم الأخوين الأندر في العالم وذات الخواص الطبية والطبيعة المذهلة والتي تعتبر العلامة الأشهر في جزيرة سقطرى. يمكنك الاستمتاع بالمناظر الخلابة لمرتفعات دكسم شديدة الاخضرار, بالإضافة إلى مشهد المحيط الهندي ساحر الزرقة في صورة استثنائية تجبرك على حفظها في ذاكرة كاميرتك وذكريات هذه الزيارة التي نثق أنّكم لن تنسوها. استقليتُ السيارة من مدينة حديبو متجهاً نحو غرب الجزيرة، وحين وصلتُ منطقة علامة كان هناك طريقان: طريق يتجه غرباً في سهوب وسهل قُدامة باتجاه مدينة قلنسية، وخط يتجه جنوباً نحو الجبال إلى قلب محمية دكسم.. وكان هذا الأخير هو خيارنا ووجهتنا التي غدونا من حديبو نطلبها. حين عرجنا بالطريق من أمام قرية علامة كان السهل الأخضر الوسيع يمتد عن يميننا وشمالنا والأغنام تنتشر في كل أرجائه دون حسيب أو رقيب.. بدأنا نصعدُ الجبال رويداً رويداً، والبرودة تشتد، وخلال ذلك كان يبدو لنا المحيط الهندي في أبهى صورة، فيما السهل بدأ يضيق شريطُهُ بفعل الابتعاد عنه. بلغنا قمة الجبل تراءت لنا العديد من الجبال التي تقع إلى جهة الشرق والجنوب، وأرفعها كانت تلك التي تقع في الشرق ويتوجها الغمام على مدار العام، وفي أعماقها توجد العديد من الأودية، لعل أشهرها وادي (عيهفت) الذي يشتهر بغزارة مياهه التي ترتوي منها معظم المناطق كحديبو وقاضب وموري. في دكسم كان أول ما لفت الانتباه ذلك الحوش الذي يقف على بوابته بعض الحرس من الجنود الذين سمحوا لنا بالدخول إليه والمكوث تحت أهم شجرة مِن أشجار دم أخوين داخله والتي تُسمى (مظلة الرئيس)، والتي أسسها الرئيس السابق وكان دائماً ما يستظل تحتها حين يزور جبال دكسم ليستمتع برؤية شجرة دم الأخوين. ومن تحت تلك الشجرة أعلنَ فخامة الرئيس عبدربه منصور هادي قراره التاريخي بإنشاء محافظة سقطرى أواخر العام الماضي، ما جعل لذلك المكان أهمية تاريخية علاوة على كونه مكاناً استراتيجياً يمكن منه مشاهدة معظم مناطق وجبال أواسط جزيرة سقطرى، وتتضح منه رؤية شجرة دم الأخوين التي أضحى اسمها لصيقاً لاسم الجزيرة ولا ينفك عنها أبدا. تركنا خيمة الرئيس ومضينا مع الخط الاسفلتي حتى انتهى، وبعدها قطعنا حوالي اثنين كيلومتر في طريق ترابي وعر جداً يحتاج لسيارات لاند كروزر قوية، ونزلنا لالتقاط بعض الصور لأشجار دم الأخوين ومياه بعض الواحات والسوائل التي تجري بغزارة دون أن يُستفاد منها بأية زراعة أو فلاحة!! في منطقة دكسم يكثر تربية الأبقار إلى جانب الأغنام، فيما تقتصر بقية مناطق جزيرة سقطرى على تربية الأغنام فقط، وبالذات الماعز. والمُلفِت للنظر في سقطرى رُخص أسعار الأغنام، حيثُ يُباع الجدي(التيس) بحوالي 5 أو 6 آلاف ريال، والسبب أنَّ السُكَّان لا يبذلون في تربيتها أي جُهد ولا يتعبون فيها أبدا. فهي ترعى حيث شاءت دون أنْ يخشى عليها أصحابُها مِن شيء، فلا أحد يسرق حق أحد، ولا توجد حيوانات مفترسة على الإطلاق، فضلاً عن توفر المرعى والماء الذي لا تخلو منطقة في الجزيرة من أنهار وعيون عذبة تذهب مياهُها أدراج الرياح. في قلب منطقة دكسم هناك أحد البيوت التي وجدنا بجوارها مكاناً يعرض بعض أزياء وموروث سقطرى، ويوجد فيه لمسة جمالية تختلف عن بقية بيوت المنطقة.. حين سألنا عرفنا أنه لشخص تزوج بامرأة أوروبية من اللاتي يأتين للسياحة والتنزه في جزيرة سقطرى،والسياح الأوربيون في سقطرى كُثر، ولا تكاد طائرة تصل إلى سقطرى دون أن يكون على الأقل وفي أصعب الأحوال ربع رُكَّابِها من السياح الأجانب. هذه المرأة الأوروبية أحبت سقطرى ومعها أحبت الزواج بذلك الرَّجُل السقطري، وآثرت المكوث بعض أشهُر العام في أحضان الطبيعة البِكر في تلك المنطقة الفريدة في العالم. تهب لبلادها من أجل أعمالها ووظيفتها، لكنها لا تغيب عن سقطرى عامٌ واحد؛ تأتي للمكوث بضعة أشهُر ثم تعود لبلادها.. قلتُ في نفسي: كم هي محظوظة وكم هو محظوظٌ ذلك السقطري الذي فازَ بها وفازتْ به!! حين تتمشى في ربوع منطقة دكسم ويراك الساكنون ستكون حال العودة بسيارتك على موعد مع الأطفال الذين يخرجون من بيوتهم لِمُلاقاتِك والتفرُّج عليك أولاً مِن باب الفضول وثانياً من أجل يعرضون عليك بعض فصوص من دم الأخوين أو من المطحون، والأفضل الفصوص، وكذلك يعرضون بعض مساويك لشجرة ليست كمساويك الأراك ولكنها بُنيَّة داكنة تشبه لون فصوص دم الأخوين، وهذه المساويك تجلو الأسنان وتجعلها ناصعة البياض. لا يمكن للمرء أن يمر من جانب أولئك الأطفال دون أن يتوقف للشراء منهم ومحادثتهم لمحاولة معرفة طبيعة عيشهم وفهم بعض المفردات السُقطرية التي يَصعُب فهما لأول وَهلة، فاللغة السقطرية كما هي المهرية لا تزال تحتفظ بأصولها السامية التي كانت في يومٍ من الأيام إحدى اللهجات الحميرية التي أتت لغة القرآن الفُصحى لتزيحها من الطريق وتترك بعض مفرداتها في الكثير من المناطق اليمنية التي تخلت عن مفرداتها الحميرية لصالح اللغة الفُصحى بفعل التأثر والاختلاط، فيما ظلَّ المهريون والسقطريون الذين تربطهم رابطة النسب والانتماء محتفظين بلهجتهم حتى اليوم، ما جعلها تبدو لنا كلغة مستقلة بذاتها، فيما هي في الأصل لهجة حِمْيَريَّة قديمة ظلَّتْ تحتفظُ بخصاصها دون مساسٍ من الفُصحى، مثلها في ذلك مثل اللغة الأمازيغية في بلاد المغرب العربي التي أثبت المؤرخ الفقيد محمد حسين الفرح رحمه الله في كتابه (عروبة البربر) أنها إحدى اللهجات الحِمْيَريَّة، وأنّ الأمازيغ أو البربر هم أنفسهم عربٌ يمانيون وليسوا قومية مختلفة عن العربية. الشيء الأجمل في منطقة دكسم هو اعتدال الجو وميوله إلى البرودة، ما يجعلها صالحة لاستزراع الكثير من أشجار اللوزيات والحمضيات والتفاح والرمان والزيتون، على عكس بقية مناطق الجزيرة الساحلية التي تكون حارة ورطبة. لكن للأسف لا الذين يسكنون السهل والساحل زرعوا ولا الذين في الجبال والأودية والسهوب استفادوا من تلك الأراضي الخصبة والمياه العذبة التي تتدفق أنهاراً جارية. |