في خضم الأمواج المتلاطمة التي تضرب السواحل اليمنية، والرمال المتحركة التي تعيد تشكيل الخارطة السياسية في جنوب الجزيرة العربية، تقف "حضرموت" اليوم كالجبل الراسخ، تستند إلى تاريخ ضارب في عمق الزمن، وتتطلع إلى مستقبل بات فيه "تقرير المصير" ضرورة وجودية، لا ترفاً سياسياً.
لم تكن حضرموت يوماً مجرد رقعة جغرافية عابرة أو ملحقاً إدارياً فائضاً؛ بل كانت ولا تزال "أمة" بمفهومها الحضاري، تمتلك شخصيتها الاعتبارية المستقلة التي صهرتها قرون من الهجرة والتجارة ونشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
هذه "أصالة الجذور" هي التي تمنح الحضارم اليوم المناعة ضد محاولات التذويب، والقدرة على الصمود في وجه مشاريع الهيمنة المتصارعة.
الجذور التي لا تموت عندما نتحدث عن الجذور، فإننا نستحضر إرثاً سياسياً مستقلاً، حيث كانت السلطنات الحضرمية (القعيطي والكثيري والمهرية) تدير شؤونها بعلاقات دولية وسيادة داخلية، وتمتلك مؤسسات مدنية وعسكرية سبقت محيطها بعقود.
إن ما حدث في عام 1967 من "ضم قسري" لكيانات حضرموت المستقلة في إطار دولة مركزية، ثم الدخول في وحدة اندماجية عام 1990، لم يكن سوى انحراف تاريخي دفع الحضارم ثمنه غالياً من أمنهم وثرواتهم وهويتهم.
اليوم، وفي ظل الصراعات الحالية التي تعصف باليمن، تحاول أطراف متعددة استنساخ تجارب الماضي، عبر التعامل مع حضرموت كـ "خزان نفطي" لتمويل حروب المركز، أو كـ "رقم انتخابي" لشرعنه مشاريع سياسية لا تعبر عن طموحات أبناء الأرض. هنا، يبرز الصوت الحضرمي ليقول: "كفى".
إن العودة للجذور ليست نكوصاً للماضي، بل هي استدعاء لنموذج "الدولة المدنية" التي عرفها الحضارم وأضاعها الآخرون.
استحقاق المستقبل: تقرير المصير كضرورة أمنية إن المطالبة بحق تقرير المصير لحضرموت اليوم ليست دعوة للفوضى أو التجزئة، بل هي قراءة واقعية لمآلات الصراع.
لقد أثبتت العقود الماضية فشل الدولة المركزية (سواء في صنعاء أو عدن) في توفير الحد الأدنى من الحماية والخدمات لحضرموت. إن مشهد "الانفصال العلاجي" يلوح في الأفق كخيار قانوني وشرعي، استناداً إلى مبدأ أن الشعوب التي تتعرض للتهميش الممنهج ونهب الثروات، وتفشل الدولة الحاضنة في حمايتها، تمتلك الحق الكامل في تحديد مصيرها.
إن الواقع الأمني في وادي حضرموت، حيث لا تزال قوات من خارج النسيج الاجتماعي تفرض سيطرتها، يقف شاهداً على هذا الاختلال. في المقابل، قدمت حضرموت نموذجاً ناصعاً في ساحل حضرموت عبر "قوات النخبة الحضرمية"، التي أثبتت أن أبناء الأرض هم الأقدر على مكافحة الإرهاب وتأمين الملاحة الدولية وحماية الاستقرار. هذا النجاح الأمني هو أحد ركائز "استحقاق المستقبل"؛ فمن يملك القدرة على حماية أرضه، يملك الحق في حكمها.
حضرموت في قلب المعادلة الإقليمية إن العالم والإقليم يدركون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن استقرار المنطقة مرهون باستقرار حضرموت. فحضرموت المستقلة بقرارها، والغنية بمواردها، والمنفتحة بثقافتها الوسطية، تشكل "منطقة عازلة" آمنة، وحاجز صد منيع ضد التمددات الأيديولوجية المتطرفة أو المشاريع السلالية.
إن تمكين حضرموت من تقرير مصيرها (سواء كدولة مستقلة أو إقليم فيدرالي بشروط سيادية كاملة) هو مصلحة إقليمية ودولية قبل أن يكون مطلباً محلياً.
الخلاصة إن اللحظة الراهنة لا تحتمل الحياد. نحن أمام مفترق طرق تاريخي: إما أن تبقى حضرموت ساحة لتصفية حسابات الآخرين ووقوداً لحروبهم، وإما أن تنتزع زمام المبادرة لتفرض معادلتها الخاصة. إن الجمع بين "أصالة الجذور" المتمثلة في الهوية والتاريخ، “استحقاق المستقبل" المتمثل في السيادة وإدارة الموارد، هو المشروع الوطني الذي يجب أن يلتف حوله كل حضرمي، من رمال الربع الخالي إلى شواطئ بحر العرب وكل حضرمي في العالم.
لقد قال التاريخ كلمته، وحان الوقت لتقول الجغرافيا والسياسة كلمتها: حضرموت سيدة قرارها.
#حضرموت_تقرر_مصيرها